لغتنا الأم: جذر الهوية في عصر التغريب

03 مايو 2025
+ الخط -

في آخر حلقات برنامج "مغارب" عبر بودكاست "أثير"، حاور الإعلامي محمد رماش، الروائي الجزائري عمارة لخوص، فكانت أمسية فكرية مُشبعة بحديث الهُويّة والانتماء واللغة. بدا لخوص، العربي لساناً والأمازيغي عرقاً ولساناً، كأنّه يخطّ شهادة حيّة على دور اللغة الأم في تشكيل الوجود الإنساني، حينما روى كيف تشبّثت والدته بلغتها الأمازيغية رغم انتقالها إلى بيئة حضرية بعيدة عن جذورها.

لم تكن لغته الأم بالنسبة له مجرّد وسيلة تواصل، بل إنّها جذرٌ حيّ ينتمي إليه بكلّ جوارحه، وكلّما تعرّض لتعليقات تنتقص من استخدامه للأمازيغية، كان يستحضر صورة والدته، فتنتابه قوّة وجدانية عارمة تُعيده إلى أرضه الأولى، إلى ذاته. مشهد دفعني إلى تأمّل حال لغتنا العربية اليوم؛ كيف لها أن تصمد أمام سطوة العوالم الرقمية والمدارس الدولية (الإنترناشونال) والإعلام العابر للقارات؟ كيف لها أن تحافظ على مكانتها وسط طوفان لغات هجينة تتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية؟

تذكرت، وأنا أتابع اللقاء عبارة، سمعتها خلال المؤتمر الدولي للاستشراق الذي أقيم في الدوحة من وقت غير بعيد، قالها أحد الباحثين الأجانب: "أعظم أعداء اللغة العربية هم أبناؤها." عبارة جارحة، لكنها تلامس واقعاً مُرًاً، فحينما يهمل الآباء والأمهات اللغة الأم، ويتوسّلون لغات أجنبيةً هشةً لتنشئة أبنائهم، فإنهم يدفعونهم إلى هاوية "الاغتراب اللغوي"، فيفقد الطفل انتماءه للغته الأم (وأحياناً، من دون أن يتقن لغة أخرى إتقاناً حقيقياً).

لقد بتنا نشهد جيلاً عربياً غريباً عن لسانه، غريباً عن إرثه الثقافي، رغم أنه يحمل اسماً عربياً ويعيش فوق أرضٍ عربية. وحتماً، فإنّ الحفاظ على الهُويّة اللغوية لا يبدأ بالشعارات الكبرى، بل ينطلق من البيت، من الحديث اليومي البسيط، من احتضان اللغة في تفاصيل الحياة منذ الطفولة المبكّرة، وفي المدرسة، إلى لغة التعليم الجامعية المُعتمدة في كلّ التخصّصات.

اللغة ليست مجرّد أداة تواصل، بل إنّها وعاء للمعرفة، ومرآة للهُويّة، وجسر للمستقبل

وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، فإنّ تجربتي الشخصية مع ابني عبد الرحمن مثال حي على ذلك. فمنذ ولادته، التزمتُ مخاطبته باللغة العربية الفصحى المُعْرَبة بالحركات في جميع المواقف، حرصاً على أن تكون الفصحى (لغة القرآن والعلم والفكر والتفكير والذكريات) لغته الأم الأولى، بينما استخدمت والدته لهجة بلاد الشام (لهجة ضفتَي نهر الأردن) لتبقيه قريباً من محيطه الاجتماعي، وبحكم إقامتنا حينها في تركيا، اكتسب عبد الرحمن التركية بطلاقة، وها هو اليوم يخطو أولى خطواته في اللغة الإنكليزية بثقة متنامية.

وكان من أجمل اللحظات التي عشتها، حينما حضر عبد الرحمن قمّة "بالعربي" الأخيرة في الدوحة، وتجاذب أطراف الحديث بالفصحى مع الأستاذ أمجد النور، وكأنّ كلّ واحد منهما وجد في الآخر ما يبحث عنه في سواه! ولما رأى فيه من طلاقة في العربية، دعاه لمتابعة برنامجه الجديد الذي سيعرض على الجزيرة 360. لقد أصرّ، بعد لقائه بالأستاذ أمجد، على تجربة تقديم نشرة أخبار أمام الكاميرا في استوديو معهد الجزيرة للإعلام الذي كان مُقاماً وسط الفعالية، مدهشاً الفريق بقدراته اللغوية وطلاقة لسانه. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة تتويج لكلّ سنوات الالتزام والجهد، وشهادة على أنّ العناية باللغة الأم تُؤتي ثمارها حتماً.

إنّ حماية الهُويّة اللغوية مسؤولية مزدوجة تقع على عاتق الوالدين، فاللغة ليست مجرّد أداة تواصل، بل إنّها وعاء للمعرفة، ومرآة للهُويّة، وجسر للمستقبل. 

وختاماً، تحية لكلّ من يتشبّث بلغته الأم، يزرعها في قلوب أبنائه، ويصنع منها جسراً للمعرفة والانتماء، لا بقايا تراث منسي. 

مستشار لغوي
محمد دلكي
كاتب وأكاديمي، مختص في اللسانيات الحديثة وتماسك النص، مستشار تربوي وخبير في تعليم العربية للناطقين بغيرها. باحث في قضايا اللغة والهُويّة وعلاقتها بالتحولات الثقافية المعاصرة.