لبنان... نهاية كابوس طويل

28 نوفمبر 2024
+ الخط -

أنظر إلى عقارب الساعة أمامي في فجر 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إنّها أطول الساعات في حياتي، بانتظار الساعة الرابعة، حيث قرار وقف إطلاق النار سيدخل حيّز التنفيذ. 

وبعد اطمئناني على عدم تنفيذ جيش الاحتلال أيّ "مفاجأة" أخيرة، غفوت لبضع ساعات بعد الرابعة. إنها ساعات النوم الأجمل منذ سبتمبر/ أيلول الماضي. استيقظت لأشاهد أهالي جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع يعودون إلى بيوتهم. هو المشهد الذي قلقت من عدم مشاهدته مجدّداً بعد شهرين متواصلين من العدوان الإسرائيلي. أرى صورة لامرأة (حجة) تبكي بعد عودتها إلى بلدتها، فأبكي معها. يرسل لي صديقي مقطع فيديو لاحتفالاتِ النازحين داخل أحد مراكز الإيواء في بيروت، فيضحك قلبي، وأردّد "ما أثقل المعاناة التي عاشها هؤلاء داخل المراكز المكتظة، غير المجهزة لاستقبالهم". أتابع منشورات أصدقائي وهم يتفقدون منازلهم وأرزاقهم، أتلمس فرحة كلّ من وجد منزله صامداً، وحزن من خسروا المكان الذي كبروا وكوّنوا ذكرياتهم فيه. أدرك أنّ كلمة "الحمد لله" التي قالوها، ما هي إلا مواساة لأنفسهم، فالمهم الآن انتهاء هذا الكابوس، الذي دفع كلّ لبناني ثمنه، ولو بمستوياتٍ مختلفة. 

تصل مقاطع الفيديو التي توثّق حجم الدمار والعدوان تباعاً، أتذكر وجودي في هذه الأماكن، وتحديداً في الضاحية الجنوبية التي أمضيت فيها معظم أوقاتي في السنوات الثلاث التي سبقت مغادرتي لبنان في أغسطس/آب الماضي. ستنطلق عمليات رفع الأنقاض وإعادة الإعمار قريباً، وقد تُبنى هذه الأماكن بشكل أفضل ممّا كانت عليه، لكنها بالتأكيد ستفقد القيمة الخاصة التي احتلتها داخل كلّ شخص منا. لا أدري إن كانت عشوائيات الضاحية، التي لطالما امتعضت منها ومن زحمتها، ستعود كما كانت، وهي أبرز ما يميّز جنوب عاصمتنا. 

قد تُبنى هذه الأماكن بشكل أفضل ممّا كانت عليه، لكنها بالتأكيد ستفقد القيمة الخاصة التي احتلتها داخل كلّ شخص منا

أتابع كلّ هذا على هاتفي، وأنا أجلس في "منزلي الآمن" خارج لبنان. هاتفي نفسه الذي كنت أخاف من تشغيله في كلّ صباح طوال الشهرين الماضيين، لكي لا أستيقظ على خبر فقدان أحد أفراد عائلتي أو أصدقائي وزملائي الصحافيين والصحافيات. اليوم، لم تتوقف الإشعارات المليئة بالحبِّ، التعبير الأدق لتوصيف الحالة، ولعلّ أبرزها المرأة (الحجة) التي تعانق ابنها بعد نعيه نتيجة فقدان الاتصال به لأكثر من شهر. كذلك، لن يغيب عن بالنا مشهد إسقاط العلم الإسرائيلي عن خزان مياه في بلدة عيتا الشعب، التي شهدت عدواناً هستيرياً منذ أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023. مع إسقاط هذا العلم، أتذكر كم كانت ثقيلة الفيديوهات والصور التي أظهرت عناصر جيش العدو وهم يرفعون علم إسرائيل داخل البلدات والمنازل الحدودية. 

أخرج من سكني لأقابل أصدقائي وزملائي من مختلف الجنسيات. تفنّن كلّ منهم بتهنئتي، لكنهم أجمعوا على عبارة "صار فينا نشوف ضحكتك الآن". عادت ضحكتي العريضة المعروفة، لكنني لم أتمكن من رسمها أمام أصدقائي الغزاويين، الذين فرحوا أكثر مني بوقف إطلاق النار هذا. أمام هذا المشهد، ستظلّ فرحتنا منقوصة طالما العدوان على غزّة مستمر.

ستظلّ فرحتنا منقوصة طالما العدوان على غزّة مستمر

وعلى الرغم من اعتيادي على هذه الأحاديث طوال السنوات الماضية، لن أخوض نقاشات الانتصار والهزيمة مع أصدقائي القريبين والبعيدين من "حزب الله"، والتي ستُطرح في أقرب وقت لتحليل نتائج الحرب اللعينة هذه. ما أريده الآن هو توفّر تذكرة طيران لأسافر إلى لبنان، لأعانق كلّ شخص قلقت عليه طوال الشهرين المنصرمين، ولأبكي على ضاحية بيروت والجنوب، والبقاع (بما فيه بعلبك) التي لم أزرها منذ فترة طويلة. 

أكتب هذه المدونة لأوثّق اليوم هذا. لأتذكر كم انتظرته، ولكي لا أنسى بشاعة الأيام التي سبقته، ولأعود إلى قراءته في كلّ مرّة أستذكر فيها هذه الحرب، التي أخذت قطعةً مني، ومنا جميعاً.