لبنان: الانتصارية لا تبني دولة

17 يناير 2025
+ الخط -

مع انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، وذلك بعد أن تمّ حسم التوافق عليه، في أجواء دراماتيكية، بضغط كبير من الخماسية الدولية على النواب (لا سيما من أميركا والسعودية، وبشكل رديف: فرنسا)، ثم تعيين القاضي الدولي نواف سلام رئيسًا للحكومة، دون رضا الثنائي الشيعي حزب اللّه وحركة أمل، وذلك بعد أن تمّت تسميته من أكثرية النواب في "ضربة مسرح" سياسية قلبت رأسًا على عقب، بين ليلةٍ وضحاها، مسار الأمور التي كانت متجهة لصالح نجيب ميقاتي، تنتاب موجة من الانتصارية المعارضة السابقة، لا سيما القوى "السيادية" و"التغييرية" ضمنها. 

بالمقابل، توازي هذه الانتصارية، في مقلب سياسي آخر، موجة من الإحباط، لا سيما لدى أنصار الثنائي الشيعي حزب اللّه وحركة أمل (وهو الذي يدمن عادة على انتصارية من النوع الحربي، التي يجرى استثمارها في الداخل)، إذ يُنظر إلى تسمية سلام من قبل ناخبي الثنائي، الذين يشكلون الأغلبية داخل الطائفة الشيعية، على أنّها هزيمة سياسية وإقصاء لهذه الطائفة، وهذا يأتي بعد شهرين من حرب رهيبة، كان شيعة لبنان هم المستهدفون بشكل رئيسي فيها من قبل الجيش الإسرائيلي، ومعطوفًا على انتخاب رئيس للجمهورية لم يكن الخيار المفضّل لدى الثنائي الشيعي.

تساهم انتصارية "التغييريين"، وخصوصًا انتصارية "السياديين" وقوى التقاطع التغييري/السيادي، في تغذية هذا الشعور بالإحباط ضمن شرائح واسعة من شيعة لبنان. إذا كان التحجّج بالميثاقية لإعاقة انتظام عمل مؤسسات الدولة، وهو ما يدأب عليه الثنائي الشيعي منذ عشرين سنة، ألحق أضرارًا فادحة بالدولة اللبنانية، فبالمقابل، إنّ الخطاب المتطرّف للرؤوس الحامية من المعارضة سابقا، المفعم بالتحدي والتشفي ونوع من العجرفة بوجه الثنائي، ربّما هو أكثر ما من شأنه أن يلحق ضررًا ليس بالعهد الرئاسي الجديد فحسب، معيقًا بذلك انطلاقته، بل أيضا بمساعي رئيس الحكومة المكلّف بتشكيل حكومته: فذهنيّة الانتقام، أي أن نفعل بالخصم اليوم ما فعله بنا في الماضي (حزب اللّه أوغل في العقدين الأخيرين في الغطرسة، وفي سياسة الفرض والإقصاء، وفي لعبة الدم، وفي المغامرات الانتحارية التي فرضها على البلد)، وأن نبرّر الأولى بالثانية، لا تبني دولة. 

ذهنيّة الانتقام، أي أن نفعل بالخصم اليوم ما فعله بنا في الماضي، وأن نبرّر الأولى بالثانية، لا تبني دولة

الخطر اليوم هو في الانتقال من "تطرّف" كان سائدًا في العشرين سنة الماضية (التذرّع بالميثاقية، للتعطيل) إلى تطرّف آخر (التذرّع برفض الميثاقية التعطيلية، للإقصاء)، غالبًا بهدف التشفي، بما يهدّد التركيبة اللبنانية والدولة. هناك تسمية رئيس حكومة جرت حسب الدستور، أي بأكثرية النواب، فيجب احترامها، حتى لو كانت دون رضى مكوّن معيّن. ولكن البناء على ما تقدّم من أجل الدفع نحو إقصاء مكوّن من السلطة أمر خطير في نظام توافقي. 

في لبنان، مع العقد الاجتماعي الحالي المكرّس بنظام الطائف، القول إنّ الديمقراطية هي أن تحكم الأكثرية وأن تعارض الأقلية هو ديماغوجية، وعدم إدراك لطبيعة هذا النوع من الأنظمة "التوافقية"، فالنظام اللبناني الحالي تمكن مقارنته نوعًا ما مع نظام أيرلندا الشمالية، أو البوسنة والهرسك حاليًا، أو يوغسلافيا سابقا بشكل أعم، أو قبرص قبل 1974، وليس مع نظام الحكم في فرنسا أو في بريطانيا. في الأنظمة التوافقية بين "مكونات"، لا يمكن إقصاء أيّ مكوّن عن الحكم، فالمسّ بالتوازنات في تقاسم السلطة لا يمرّ دون ردات فعل خطيرة من الممكن أن تهدّد استقرار هذه البلدان، وخاصة في حال وجود مليشيا مسلحة. يحب تغيير طبيعة العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، من توافقية طوائف إلى عقد على أساس المواطنة (عقد اجتماعي بين مواطنين)، وبعد ذلك، يمكن الحديث عن أكثرية تحكم وأقلية تعارض، وليس قبل ذلك. 

في تركيبة كالتركيبة اللبنانية، لا يمكن إجراء "اجتثاث لحزب اللّه" من طائفته بالقوّة والفرض. اليوم، في غمرة الانتصارية التي تنتابها، تتصرّف بعض القوى السياسية من المعارضة السابقة وكأنها تريد أن تختار للشيعة تمثيلهم السياسي كما ترتئيه هي، وكما يناسب ذوقها السياسي هي، لا كما تريده أكثرية شيعة لبنان. هذا النمط من التفكير تمييزي، إقصائي، استعلائي، سومبريماسي، يشكّل خطرًا على الدولة وعلى لبنان، وهو صورة طبق الأصل عن تفكير الثنائي خلال العشرين سنة الأخيرة. أصحاب هذا النمط من التفكير ومن الخطاب لا يريدون بناء دولة ولا بلد، بقدر ما يريدون، في الحقيقة، قلب معادلة الغلبة الطائفية فقط. 

في الأنظمة التوافقية بين "مكوّنات"، لا يمكن إقصاء أيّ مكوّن عن الحكم

يجازف بمستقبل لبنان من يعتقد أنّ تهاوي محور الممانعة في الإقليم، والتضعضع الكبير الذي أصاب حزب اللّه بصفته تنظيماً عسكرياً بوجه إسرائيل في حرب الخريف الماضي، ممكن تقريشهما في الداخل هزيمةً للشيعة في المعادلة الطائفية اللبنانية. من شأن إقصاء الثنائي أن يدفع نحو تراجع عناوين السياسة الخارجية والدفاع في الكباش الداخلي عنده، لتتصدّر مكانها عناوين حقّ الطائفة الشيعية بالمشاركة في الحكم، لا سيما بمن يمثلها فعليًا، والمطالبة بعدم التهميش والحرمان، أي عود على بدء إلى أدبيات انطلاقة حركة أمل في سبعينيات القرن الماضي ولمسيرتها في هذا الخصوص، التي بلغت ذروتها في 6 فبراير/شباط 1984 بوجه المارونية السياسية المتمثّلة بحكم الرئيس أمين الجميل وقتها. 

اليوم، التشاور مع الجميع (بعيدا عن ذهنية الإقصاء، وعن ذهنية المحاصصة أيضا) ضروري لتشكيل الحكومة، وهذا ما يعرفه جيدًا كلّ من رئيس الجمهورية الجديد جوزاف عون، وهو قائد الجيش الأسبق، ورئيس الوزراء المكلف نواف سلام، وهو الدبلوماسي المخضرم وأستاذ العلوم السياسية. لقد حان الوقت لكلّ القوى السياسية في لبنان أن تتواضع، بعيداً عن أيّ روح انتقامية، وبعيداً عن أيّ نيّة للتعطيل، من أجل تشكيل حكومة إنقاذ تستطيع أن توقف البلد على رجليه، فإن بقاء لبنان يعتمد على ذلك.

حان الوقت لكلّ القوى السياسية في لبنان أن تتواضع، بعيداً عن أي روح انتقامية، وبعيداً عن أي نية للتعطيل

فضلًا عما سبق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإحباط الأكبر بعد تسمية سلام ليس لدى جمهور الثنائي، بقدر ما هو لدى جمهور رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وإن اختلفت طبيعة الإحباطين، وإن كان الإحباط الثاني صامتا. اليوم، يمتلك نواف سلام شرعية دستورية ديمقراطية بفعل تسمية أكثرية النواب له، ولكن يبقى عليه أن يحصّل مشروعية ديمقراطية، لا سيما ضمن الطائفة التي يشكّل منصب رئاسة الحكومة المركز الأوّل لها في الدولة بحسب النظام الحالي. ما سوف يحدّد شعبية نواف سلام ضمن طائفته هو نجاحه في رئاسة الحكومة بشكل أساسي، ولكن من المستحسن أيضا أن يعالج مسألة صورته النخبوية. إذا كانت شعبية نواف سلام قوية ضمن النخب، لا سيما النخب الثقافية ضمن البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى التي ترى نفسها في أشخاص مثله، إلا أنّ شعبيته تبقى ضعيفة ضمن الأوساط الشعبية (الوازنة بعدد أصواتها) ضمن سنة لبنان، وذلك لأنّ الصورة الراسخة عنه في ذهن هذه الشرائح الشعبية هي صورة محمد البرادعي لبناني، أو عبد اللّه حمدوك لبناني، يسقط بالباراشوت من الخارج، مفتقرًا إلى ثقل التمثيل الشعبي ضمن طائفته، بعكس سعد الحريري مثلا، "الأوليغارشي"، ولكن، للمفارقة، "القريب من الناس" بعيون الشرائح الشعبية السنية خصوصًا، والذي زادت شعبيته بالمقارنة مع الفترة التي كان فيها في الحكم، لا سيما بفعل "المظلومية" الناتجة عن "منعه" من ممارسة العمل السياسي.

القوى "التغييرية"، وهي غالبًا تلك القوى الشعبوية المنبثقة عن البرجوازية الصغيرة، التي تدّعي تمثيل "الشعب الحقيقي" بوجه النخب، في حين أنها قوى نخبوية بنظر الشرائح الشعبية، طالما لم تقم بمعالجة مشكلة ضعف شعبيتها لدى الأخيرة، ولم تبتعد عن خطاب احتقارها ("غنم")، فلن تستطيع الحصول على أكثرية في مجلس النواب تخوّلها القيام بتغيير فعلي وحقيقي.