لا للتهجير.. نعم لما هو أكثر من ذلك
أفواج من مراهقي "تيك توك"، وجموع محدودة من المحتاجين الذين ما زالوا قادرين على تحمّل مرارة الشحن الجماعي لتحقيق أغراض السلطة في مصر مقابل بعض الفتات من القوت اليومي، مرّةً نحو ميدان التحرير، ومرّةً في المحافظات، ومرّةً أخرى بالقرب من معبر رفح، تُبرز الدولة ورقتها الشعبية المهترئة، في الضغط ضدّ إرادة ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزّة نحو مصر والأردن وغيرهما، مستعرضة عضلاتها المحقونة بإبَر النفخ، ولا تجد اليوم أيّ صدى، ولو في دوائرها، في ظلّ ذلك الترهل الكبير على مدار سنوات طوال ثقال عجاف، فيخرج المشهد بلا مشهد أصلاً، ويفضح ضعف كلّ الأوراق، بل يزيد من قهقهة الشيطان الجالس خلف مكتبه في البيت الأبيض، وهو يرى آخر ما وصلت إليه المحروسة.
ويجري ذلك بينما البعض يتداولون خطاب الرئيس، وهو يرفض التهجير علنًا، ويقول إنّ لديه شعبًا لا يرضى بذلك، الشعب الذي يرمي أكثر محرّكيه ونخبته ومثقفيه وسياسييه في السجون، ويلوّح بورقة الضغط الشعبي، ويعظمونه، وهو ذاته الذي اقترح من قبل فكرةً عبقرية من الأدبيات الإسرائيلية الإبادية، تفيد بتهجير أهالي غزّة إلى "صحراء" النقب، كأنك تلقيهم في البحر، ثم ليتم الاحتلال الإسرائيلي مهمّته ضدّ "الجماعات المسلحة" في القطاع المحاصر، ثم يعود السكان مجدّدًا بعد أن تقضي العملية ما تريد، فكرة لم تكن لتخطر بتبجّح ووضوح إلى هذه الدرجة في عقل نتنياهو نفسه، لكنها وردت في بال الرئيس سبحان الله، وحينها كانوا يجدون ما يبرّرون به فكرته أيضًا.
تحوّل معبر رفح من ورقة مصرية خالصة إلى منديل ورقي في "يد" إسرائيل، تلوّح به كيف تشاء، وتقضي فيه بما تريد
ثم على مدار خمسة عشر شهرًا، تحوّل معبر رفح من ورقة مصرية خالصة إلى منديل ورقي في "يد" إسرائيل، تلوّح به كيف تشاء، وتقضي فيه بما تريد، حتى انتزعت عنه سيادته المصرية مجانًا، بدوافع كثيرة، أدناها الجبن وأوسطها الخيانة، وأعلاها متروك للجماهير وللتاريخ، ثم احتُل محور صلاح الدين من دون أن تحرّك القاهرة ساكنًا، متحوّلةً بقدرة قادرة إلى مقهورة على أمرها، عاجزةً أو "متظاهرةً" بالعجز، عن إدخال لُقيمات يقمن صلب غزّة، أو شربة ماء تبلّ حلقها المتشقّق جفافًا وغصّة، أو جرعة وقود تسيّر مستشفياتها المتهالكة وتحرّك مركباتها المعطّلة التي سارت بزيت الطعام، أو خيمةً تقي قليلًا من برد الشتاء، لكنها لا تقي من نار الحمم المصبوبة فوق رؤوس أهلها، أو شاحنة إغاثة يجد فيها عشرة أشخاص فقط من غزّة مآربهم، تجويع وتقتيل وكلّ ما لا يخطر ببالك، شاركت به الجارة الكبرى، حتى تحوّلت إلى جائرة كبرى، نظامًا لا شعبًا، وسلطةً لا جماهير غفيرة تبكي كلّ يوم ألف مرّة وتجلد نفسها عجزًا وندمًا.
وفي النهاية، لم يأتِ رفض مخطّط التهجير (فوق الطاولة) إلا تناقضًا مع ما تحت الطاولة، وكذلك خشيةً حقيقيةً من أن تصاب مصر بعدوى غزّة، بوجود من يقاومون على أرضها، بفهم فرضيةٍ قابلة للتحقّق، بأن الغزيّ ولو مضى أعزل في أيّ وادٍ، فإنه سيحمل مقاومته في صدره، وسيجد طريقته وطريقه للكفاح المسلح، ولو بعد حين، ولو بدءًا بحجر من جديد، وذلك هو مكمن الخوف المصريّ الرسميّ، فلا داعي لأن يمنّ البعض على غزّة بمواقف "كلامية"، لا تمحو ولو يومًا واحدًا من نحو خمسمئة يوم تحلّلت فيها غزّة حتى ظهر هيكلها وعظامها، وانسحقت، وهي لا تجد نصرةً واحدة من أكبر بلد عربي وإسلامي معًا في العالم، كأن تلك السلطة تقول: أفعل أيّ شيء، وكلّ شيء، وكلّ ما يخطر لبالك من الموبقات، لكني لا أقبل التهجير!