لا أحد يرى أحداً

16 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 18 أغسطس 2025 - 00:24 (توقيت القدس)
+ الخط -

لا السيدة التي تركب، ولا السائق الذي يتوقّف لها يراها. تدخل السرفيس من دون أن تنبس بكلمة، تكاد تجلس على ركبتي لسمنتها، لكنها حتى لا تعتذر. أصلاً هي لا تراني. لا أحد يرى أحداً. كما لو كان كلّ منّا مُستغرقا في نفسه. لا الشرطي الذي ينظّم السير يرى الموتوسيكل المُخالف الذي أقبل من الجهة التي أشار إليها الشرطي بالتوقّف، ولا الدرّاج الذي التفّ تحت أنف الشرطي، حرفياً، ليسلك الاتجاه المعاكس، من دون أن يبدو عليه أنه رآه أو حتى اهتم لوجوده. كما لو كان يقوم بأكثر السلوكيات عادية. 

لا أحد يرى أحداً. يطلق سائق الدراجة النارية بوق دراجته وقد تسلّق الرصيف خلفي، ليس لتحذيري وتفادي صدمي، بل لأتنحى جانباً وأفتح له طريقه... على الرصيف! أي، الحيّز المُخصّص للمشاة العزّل من أمثالي. يتسلّق الرصيف، فيتبعه زملاؤه من دراجي الدليفري. وعندما أُفاجأ وأنتفض خائفة لدى إدراكي أنّ دراجته كانت خلفي بالضبط وليست على الزفت، يضحك وزميله الراكب خلفه، ولا يتورّع عن مخاطبتي كمن يخاطب أنثى "لطيفة"، من المُمكن أن يكون ذعرها أو استغرابها لاعتلائه الرصيف، موضع تندّر لذكور الشارع أمثاله. "هل خفت؟" يسألني وابتسامة بلهاء تعلو فمه، قبل أن يتجاوزني وهو يضغط باستمرار على الزمور. 

لا أحد يرى أحداً، وإن شاهده، لا يراه. العيون تنظر ولا ترى، كأنّها شاخصة إلى مكان غير موجود في المكان الذي تنظر إليه، أو كما لو أنها تنظر إلى داخل نفسها، مُستغرقة في صور لم تستطع الإفلات من الشخوص إليها. 

الشعارات المُتخلّفة عن الانتفاضة الشعبية منذ سنوات هي الأخرى تبدو كما لو كانت لا ترى ما يحصل في البلاد منذ كتابتها على الجدار في الوسط التجاري، السوليدير، الذي كان يُسمّى ساحة البرج في ما مضى، فلا يعدلها كاتبها. "شبيبة التغيير" قال الكاتب. 

لم تعد المفردة مناسبة لسياق تطوّر الأمور في المنطقة بكاملها. أيُّ تغيير؟ هل هو هذا الذي يحدث في سورية؟ أو فلسطين؟ أو في لبنان؟ المنطقة كلّها في حالة تغيير، لكنه ليس من نوع التغيير الذي تقصده الشبيبة التي كانت هنا ذات انتفاضة. 

العبارة الصائبة اليوم هي "مقاومة" هذا التغيير الذي تنفخ في أشرعته رياح إسرائيلية/أميركية عاتية تريد قلب كلّ شيء رأساً على عقب: جغرافيتنا، وعينا، انتماءنا، حدودنا، علاقاتنا، تاريخنا. لا تغيير قبل إيقاف هذا "التغيير"، صدّه، إفشاله. بعدها، إن بقينا موجودين على الخريطة، نتحدّث بالتغيير الحقيقي الذي فشلنا في تحقيقه حتى اليوم. 

لا تغيير قبل إيقاف هذا "التغيير"، صدّه، إفشاله. بعدها، إن بقينا موجودين على الخريطة، نتحدّث بالتغيير الحقيقي الذي فشلنا في تحقيقه حتى اليوم.

لا أحد يرى أحداً. لا الحكومة ترى الناس الذين لم يؤوبوا بعد إلى بيوتهم التي هدمتها إسرائيل، والممنوعة، بسبب جبن هذه الحكومة وخضوعها المُدهش للخارج، من الإعمار. ولا هؤلاء الناس باتوا يرون في هذه الحكومة سلطة وطنية موثوقة للدفاع عنهم. كيف يثقون بحكومة ورئيس جمهورية أقرّوا ورقة إسرائيلية أميركية باسمها الصريح، لنزع سلاح المقاومة التي سبق أن حرّرت الأرض؟ هم، أي السلطة، لا يرون مواطنيهم. وإن رأوهم؟ أجزم أنهم لا يحسّون برابط انتماء مُشترك معهم. لا يرون في مصائر هؤلاء الناس إلا عملة مقايضة مع العدو ورعاته، مقابل بقائهم في مناصبهم التي نزعت عنها سياديتها. حكومة أقرّت نزع الورقة الوحيدة بيدنا للتفاوض مع عدو مُستشرس ومن دون مقابل، في حين أنّ البلاد مُحتلة بأشكال مختلفة. أيّ حكومة هذه؟ يقولون إنّ ضغوطاً كثيرة ومهولة تمارس عليهم، فليستقيلوا إذاً، ويحرموا العدو من استخدامهم!

لا أريد أن أشاهد الأخبار. لا أريد أن أسمع المزيد. أصبحت غزّة، لثبات مشهدها على الشاشات، لامرئية. مشاهد مُتشابهة للموت والجوع تُبثّ صباحًا ومساءً مع ضحايا مختلفين سرعان ما يتركون المكان لضحايا جدد بعد دقائق. 

يرن الهاتف مساء. رقم صديق أجنبي. أرمقه ببرود. أدعه يرن ولا أجيب، أتابع المسلسل الكوري. لا شهيّة لي للكلام. شهية الكلام مثل شهية الطعام إن لم تكن جائعاً لن تفتح فمك. لا أجيب لإني أعلم عن ماذا سيسألني. سيستفهم عن رأيي في تصريحات فلان أو فيديو لعلان انتشر على مواقع التواصل وإن سمعت أيّ شيء عن التفاصيل. سيُعيدني إلى أرض الواقع الذي أحاول الاستراحة منه كي أستطيع الرؤية من جديد، الإحساس من جديد. 

سيسأل عن مستجدات الوضع عندنا. يقول إنّه في بلاده لا يحصل على الأخبار الدقيقة نظراً لتحكّم أنصار اليمين الفاشي ورساميل الشركات الكبرى بوسائل الإعلام، وإنه يريد أن يتأكّد من هذا أو ذاك الانطباع، هذا أو ذاك الخبر. هو لا يعلم أني حجزت كلّ أمسياتي من الآن وصاعدًا لنفسي. لأرتاح من النهار المُخصّص لأخبار البلاد المُجبرة على متابعتها. ليس فقط بسبب مهنتي كصحافية، بل لأن المتابعة ضرورة في بلاد كبلادنا، كما علّمتنا الحرب الأهلية والحروب التي تلتها. ضرورة لتحمي نفسك عندما تخرج إلى الشارع في بلادك المكشوفة السماء، والعارية من أيّ حماية على الأرض. 

أصبحت غزّة، لثبات مشهدها على الشاشات، لامرئية

أين قصفت إسرائيل اليوم؟ من اغتالت؟ أسمع الخبر وهو يمرّ مرور الكرام من دون تعليق من أيّ مسؤول في السلطة. كما لو كان المُغتال مجرّد ضحية حادث سير. 

لا أحد يرى، وإن رأى؟ لا يستطيع أن يفعل. 

بتّ أتعب بسرعة حتى من الردّ على مكالماتي. لا طاقة. 

أمي تتصل، لا أجيب. ثم تُعاود الاتصال، ولا أجيب. أمي لا تحبّ الرسائل الصوتية. تريد أن تسمع صوت أولادها لايف، أي مباشر. في محاولتها الثالثة، لا يقوى قلبي على مواصلة تجاهلها. أرضخ في النهاية. أسوّي، قبل الإجابة، نبرتي المتبرّمة، فأجعلها عادية، وأعيد طبقة الصوت إلى المستوى المُطمئن. فأمي تريد أن تطمئن علينا، هذا ما تقوله في كلّ مرّة، سواء إن كان اتصالها فعلاً للاطمئنان، أو لأنها ملّت من الحياة الرتيبة في القرية، وتريد أن تتسلى بالدردشة. 

"شو رأيك يا ماما؟" تسأل. تقصد الوضع في البلد. أتجاهل السؤال وأشتّت انتباهها بالتحدّث عن أشياء أخرى، ثم تقفل السماعة. لكنها، بعد ربع ساعة، تعاود الاتصال لتسألني السؤال نفسه. بم أجيبها؟ أغمغم برهة ومن ثم أحوّل الحديث إلى أمور أخرى.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى