لؤي الألماني... ومخابرات عبد الناصر

لؤي الألماني... ومخابرات عبد الناصر

23 مايو 2022
+ الخط -

عندما يتصل بي أحد الأصدقاء من إدلب، أو من مسقط رأسي بلدة معرة مصرين، تنتعش روحي، وتتنشط ذاكرتي، وأجدني مندفعاً لفتح دفاتر الذكريات القديمة.

بينما كنا ندردش، عبر الواتساب، أنا وصديقي "أبو صالح"، الذي يقيم في إدلب، كنا نتنقل من سيرة إلى سيرة، وهو يسألني عن شخص، فأرد عليه، وأسأله عن آخر.. وفجأة خطرت لي فكرة..

قلت: إنني ألاحظ على نفسي، يا أبو صالح، مسألة غريبة.

- ما هي؟

- هي أنّ أحْدَثَ قصة أعرفُها من واقعنا الاجتماعي المحلي تعود إلى ما قبل عشر سنوات، لأنني غادرت البلد في شهر آب/ أغسطس 2012، ولم أعد إليها قط، يعني ذاكرتي متوقفة عند ذلك التاريخ.. هل تعرف ابن عمتي لؤي بدلة، الله يرحمه؟

- لم ألتقِ به، ولكنني سمعت بعض أخباره من خالي أبو زياد الذي كان صديقه.

- لؤي عاش في مدينة فرنكفورت الألمانية (الغربية)، من سنة 1964 إلى أن توفي سنة 2002. كان، حينما يأتي لزيارتنا في إدلب، يحكي لي قصصاً وحكايات كلها تعود إلى قبل سنة 1964، ويسألني عن أشخاص إما أنني لا أعرفهم أبداً، أو أنهم ماتوا وطواهم النسيان.. السبب أن صلة لؤي بسورية انقطعت تماماً بعد سفره، وأنت تعلم، في تلك الأيام لم تكن معظم وسائل الاتصال التي نعرفها اليوم متوفرة، والرسالة الورقية التي كان يرسلها إلينا، أو الرسالة التي كنا نرسلها نحن إليه، تبقى شهوراً على الطريق، وكان معظم المتراسلين يفضّلون انقطاع أخبارهم عن أهلهم على إرسال رسالة بريدية قد لا تصل، أو تصل ولكن كل شيء فيها بائت.

- أخبرني خالي أبو زياد أن ابن عمتك لؤي سافر، في تلك الفترة، للدراسة في ألمانيا الغربية، ولكنه لم يعد، وبعد حصوله على الجنسية الألمانية صار يأتي في زيارات قصيرة إلى إدلب بالباسبورت الألماني.

كان لؤي قد قرر تحسين وضعه، فأحضر، في سنة 1962، كتب الثانوية العامة، الفرع الأدبي، وقرر أن يتقدم للامتحان ضمن زمرة (الدراسة الحرة)..

- نعم. وحكاية لؤي، لعلمك، تستحق أن تروى بالتفصيل، فقد تخرج، سنة 1958 من دار المعلمين، وفي مطلع سنة 1959 الدراسية، عينوه معلماً في قرية بعيدة جداً، تتبع محافظة الرقة.. وكان، خلال سني الدراسة، ذا ميول شيوعية، لذا دعاه الشيوعيون للانتساب إلى حزبهم، ولكنه اعتذر، وقال إنه لا يحب الأحزاب.. ومع ذلك، ذات يوم، اقتحمت المدرسة دوريةٌ من الأمن السياسي، وأخذوه إلى فرعهم في الرقة، بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي، وهناك ضربوه ضرباً مبرحاً، وبقي عندهم يومين وهو يُضْرَب، ثم أطلقوا سراحه بمصادفة غريبة. فقد كان رجلٌ من أثرياء إدلب على معرفة برئيس فرع الأمن السياسي بالرقة، وكان له عمل في الرقة، وبالمصادفة مر بالفرع ليزور صديقه، ورئيس الفرع أطلعه على أسماء المعتقلين الأدالبة، وحينما شاهد الرجل اسم لؤي استغرب، وقال له: مَن قال لكم إن لؤي بدلة شيوعي؟ يا رجل هذا من أسرة إقطاعية.. المهم، شفع له، وأخرجه من المعتقل.

- على علمي أنه كان فقيراً، فكيف يقول إنه من عائلة إقطاعية؟

- القصة وما فيها، أن زوج عمتي أبا لؤي كان من ملاكي الأراضي، ولكنه تعرض في الخمسينات لخسارة كبيرة، وأفلس، ولذلك اختصر لؤي طريق الدراسة، ودخل دار المعلمين حيث الدراسة مجانية مع راتب صغير، يعني اكتفى بهذه الدراسة المتواضعة مع أنه شعلة ذكاء.

قال أبو صالح باندهاش: وهل كانت تجري اعتقالات ويُضْرَب المعتقلون في زمن الوحدة؟

- نعم سيدي. وليس هذا وحسب، فالاعتقال وضرب المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم في سورية بدأ في زمن الوحدة، وقد تطور مع الزمن، وخاصة بعد قدوم حزب البعث إلى السلطة 1963، حتى تَفَوَّقَ، في أيام المجرمين حافظ الأسد وابنه، على الفاشية والنازية والستالينية.. المهم؛ بعد عشرين سنة من هذه الحادثة، كان يقول لي لؤي الذي أمضى القسم الأكبر من حياته في ألمانيا الغربية: بلادنا يا خطيب هي الوحيدة في العالم التي يُضرب فيها الإنسان بسبب ما يفكر به، أو يعتقد به.

- صحيح. وماذا جرى معه بعد إطلاق سراحه؟

- أنا، شخصياً، لم أعتقل، ولم أضرب، ولذلك لا أعرف شيئاً عن شعور الإنسان الذي يتعرض للاعتقال والتعذيب.. ولكن لؤي، بحسب ما حكى لي، كانت تمر به أيام وليال، بعد إطلاق سراحه، لا يعرف النوم فيها إلى عينيه سبيلاً، وكلما اقتربت الغفوة من عينيه، كان يتراءى له السجان وهو يضربه، ثم يأتي اثنان من السجانين ويسفحان سطلاً من الماء البارد على قدميه، ويجبرانه على الركض لئلا يتجمد الدم الناتج عن الضرب فيهما... فيصيح، ويستيقظ، ولا يعود يجرؤ على النوم مجدداً.. دواليك حتى اضطر لأن يراجع طبيباً من أقارب والده في إدلب (من آل الحكيم)، أعطاه وصفة دواء فيها حبوب منومة (فاليوم)، صار يستخدمها للنوم، حتى أدمن عليها.

- شيء فظيع بالفعل.

- نعم. وكان، خلال ذلك يحدث نفسه قائلاً إن مهنة معلم الابتدائي في بلادنا شاقة، وبائسة، وهي مكان للمراوحة في المكان لا أكثر، والمعلم من إدلب، يعين، في السنوات الأولى لتخرجه، في ريف الرقة أو ريف الحسكة، أو ريف حلب الشرقي، وإذا أرادوا مكافأته بعد سنوات، يقربونه إلى محافظة إدلب، شريطة أن يمضي بضعَ سنوات في أرياف محافظة إدلب البعيدة، كجسر الشغور أو حارم أو المعرة.. ثم إن تهمة الشيوعي المرعبة قد لبسته، وهذه المرة حالفه الحظ إذ شفع له ذلك الرجل، ولكن في مرة قادمة قد يذهب -كما يقولون في الكلام الدارج- فَرْق عملة.

مر على هذا الأمر سنتان، وانفصلت الوحدة (اللي ما يغلبهاش غلاب)، ودخلت البلاد في عهد جديد، وكان لؤي قد قرر تحسين وضعه، فأحضر، في سنة 1962، كتب الثانوية العامة، الفرع الأدبي، وقرر أن يتقدم للامتحان ضمن زمرة (الدراسة الحرة).. ودرس المنهاج، خلال السنة، بشكل جيد جداً، وذهب إلى الامتحان بكل ثقة.. واحزر بقى، يا أبو صالح، كم كان ترتيبه في النجاح؟

- كم؟

- الأول على سورية! ولدى المرحومة عمتي، والدته، صورة له مع ناظم القدسي يسلمه فيها جائزة تقديرية لتفوقه على طلاب سورية كلهم في تلك السنة، سواء الطلاب النظاميين أو الأحرار.

- الله الله. هذا فلتة. وكيف استطاع الذهاب إلى ألمانيا؟

- دولة الانفصال التي يهجوها البعثيون والناصريون حتى الآن، لأنها أجهضت حلم الجماهير العربية، سجلت اسمه في سجل البعثات، ولكن تلك الدولة سرعان ما أحبطت بانقلاب ضباط ناصريين وبعثيين عليها بقيادة زياد الحريري، وبعد استيلاء البعث على السلطة، استدعي لؤي إلى وزارة التعليم العالي في دمشق، ووضعوا أمامه عدة خيارات، منها دراسة الأدب الألماني في ألمانيا الغربية، فاختارها. وأرسلوه بالفعل، ولكن (الحلو ما يكملشِ)، فقد بدأ بصره الضعيف أصلاً، بعد سنتين من الدراسة، يتراجع، حتى لم يعد قادراً على متابعة الدراسة. ومع ذلك استقر في ألمانيا، وأمضى بقية حياته فيها.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...