كيف نجحوا في تحويل الناس إلى وحوش؟ (1/2)

كيف نجحوا في تحويل الناس إلى وحوش؟ (1/2)

01 ديسمبر 2021
+ الخط -

وعندما أتحدث عن الوحوش، لا أعني فقط رجال السلطة الذين يمارسون الظلم بقلب بارد، فهؤلاء سيظلون دائماً يظلمون طبقاً للأوامر، مهما تغير مُصدرها دون أن يطرف لهم جفن، أولاً لأنهم مسلحون بحصون دفاعية تبرر لهم باسم القانون والشرع كل ما يفعلونه، بل وتجعلهم أبطالاً لأنهم يحافظون على ما يزعمون أنه مصالح الدولة والشعب، وثانياً لأنهم يعلمون أنهم لن يجدوا من يحاسبهم إذا تجنّوا، ويعاقبهم إذا "تجنّنوا"، ويُفرِّق بين أخطائهم الممكنة وخطاياهم المتعمدة.

الأخطر والألعن في نظري هو حين تتحول غالبية المواطنين إلى وحوش تقبل الظلم، سواءً كان قتلاً أو قمعاً أو حكماً قضائياً جائراً أو تكفيراً أو تخويناً، دون حتى أن تشيح بوجهها بعيداً عن هذا الظلم، أو ترفضه في سرها لأنها مغلوبة على أمرها، بل على العكس تماماً نراها تبرره وتدافع عنه وتلعن مجرد من يسأل عن ملابسات حدوثه، فضلاً عمن يرفضه ويدينه، بل ولا تجد نفسها بعد فترة قابلة للحياة من غير هذا الظلم، فتقلق إذا تأخر أو قلت شراسته، وتطلب المزيد منه لكي تشعر بالأمن والراحة.

لكن الناس في بلادنا لم يصبحوا هكذا فجأة، لم يفقدوا إنسانيتهم وشفقتهم وتعاطفهم لأنهم تلقوا أوامر بذلك، حتى لو كانت أوامر باطشة مرعبة، فقد كان لديهم على الدوام قبل ذلك حيلهم الإنسانية الذكية والمبدعة التي يفلتون بها من التحول إلى شركاء في الظلم، وكان لديهم دائما إدراكهم بأهمية وجود "براح" إنساني يجمعهم حتى مع من يختلفون معه، بل ومع من يكرهونه، ولذلك كان على من يرغب في السيطرة عليهم الآن أن يفقدهم ذلك كله، بأن يسعى جاهداً لكي يحولهم إلى وحوش لا تبارك فقط ظلمه، بل وتطلبه وتأمره به وتلومه إن توانى فيه، ولم يكن من سلاح فعال لصنع ذلك سوى الخوف.

عليك فقط أن تجتهد في تنويع من يعزفون على نغمات الخوف، وتحرص على أن يكون من بينهم أناس محترمو السيرة حسنو السمعة ذوو تاريخ نضالي مشرف، ودائما ستجد كثيرين من هؤلاء قابلين لخدمتك

لكي تسيطر على ملايين الناس، لست تحتاج إلى خوف ضعيف الأثر أو خوف موسمي يرتبط بأحداث ما ويزول عندما تتغير، أنت تحتاج إلى أن يكون الخوف مناخاً مهيمناً على البلاد طيلة الوقت، ولذلك لا بد أن يتم تغذيته دائما وأبدا، لأن المستبد يعرف أنه "عندما يتوقف الناس عن الخوف سيعيدون اكتشاف شفقتهم"، على حد تعبير الكاتب ستيفن نايت في فيلمه الرائع (أميزينج جريس).

وبالطبع، مهمتك هنا كمستبد لن تكون صعبة، خاصة في ظل وجود أسباب حقيقية للخوف، مثل الحوادث الإرهابية التي تخيف الناس على أمنهم وسلامتهم، وهذه لن تبذل مجهوداً كبيراً فيها، بل ستكتفي باستثمار نتائجها، خاصة أنك لن تعدم أبدا وجود أغبياء موتورين أو شرفاء مقهورين أو خونة مأجورين ينفذونها، وكل فئة من هؤلاء ستساعدك دون أن تقصد على تثبيت وجودك بيأسها أو حماقتها أو خيانتها، وأنت بقليل من الجهد، ستستخدم نتائج أفعالها لتبرير المزيد من الظلم الذي يواصل تقوية الموتورين وزيادة إنتاج المقهورين ومساعدة المأجورين.

لكنك في الوقت نفسه تعلم أن الرهان على نتائج هذه الأحداث الإرهابية ليس رهاناً مطلقاً، وربما لا يفيدك بعد فترة من الوقت، لأن الناس سيبدؤون بالتململ ثم الشكوى ثم السخط وربما الغضب، ومن يدري ماذا يحدث لو تطورت الأمور عندها وخرجت عن سيطرتك كما خرجت عن سيطرة من قبلك، لذلك ينبغي أن يكون لديك مغذيات أكبر وأعمق للخوف، ولن تجد هنا ما هو أفضل من الخطر الخارجي، عليك أن تجعل الناس دائماً خائفين من مزيج من الأخطار التي تعودوا على أن يفزعهم إمكان قدومها من الخارج مثل: الاحتلال، الغزو، التقسيم، التفتيت، التفكيك، الحرب الأهلية الممولة من دول شرقية وغربية، فرض عادات اجتماعية تفزعهم مثل المثلية الجنسية والإجهاض، اغتصاب الحرائر، هدم المساجد، حرق الكنائس، تدمير الدين، مخططات الفتنة الطائفية.

كل هذه مخاوف متواترة في العقل الجمعي، لو نجحت في أن يؤمن الناس بكونها قريبة منهم ويمكن أن يتم وقوعها في واقعهم، لظلوا ناظرين إلى الخارج متوقعين أن تأتي الضربة منه، دون أن يلفت انتباههم ما تقوم به من ضربات في الداخل لتوطيد دعائم حكمك، وحتى لو حاول أحد لفت انتباههم سيقمعونه هم بأنفسهم، بأيديهم، بألسنتهم، برفضهم، بكراهيتهم، لأنهم صاروا مقتنعين أنه عميل للخارج الذي يريد أن يغزوهم ويقسمهم ويهتك أعراضهم ويدمر دينهم ويجعل حياتهم تشبه الجحيم الذي يرونه مُستعِراً في بلاد أخرى.

لكن الخوف شعور قصير الأجل، ولكي يطول أجله ويدوم مفعوله، لا بد من أن يساندك في فرضه حليف أهم وأخطر، لا بد من أن يسود الجهل، الجهل الذي لا يبدو أبداً للناظرين كأنه جهل، بل يبدو كأنه معرفة عميقة تقوم بتصديرها للناس وسائل إعلامك المقروءة والمسموعة والمرئية، سواءً كانت مملوكة لك أو لحلفائك، عبر عدد لا نهائي من تجار الخوف بأنواعه: الأكاديمي والإستراتيجي والديني والوطني والقومي والشيك والسوقي والوسطي والراقي والمنحط والعقلاني والغوغائي، فلكل نوع من الخوف زبائنه، وليس مهما أن تختلف طرق هؤلاء التجار أو مصالحهم، ولا أن يكسبوا شخصيا من وراء هذه التجارة، المهم أن لا يدرك الناس أن ما يتم ترويجه بينهم بوصفه حقائق دامغة، ليس سوى جهل سفيه، بعضه مسبوك وبعضه "ملخفن"، فكل خوف وله كيّال.

عليك فقط أن تجتهد في تنويع من يعزفون على نغمات الخوف، وتحرص على أن يكون من بينهم أناس محترمو السيرة حسنو السمعة ذوو تاريخ نضالي مشرف، ودائما ستجد كثيرين من هؤلاء قابلين لخدمتك، دون أن يحصلوا منك على ما يحصل عليه المرتزقة والمأجورون، لأنهم يكرهون خصومك الذين كانوا بالأمس حلفاءك، ولأنك رُزقت لحسن الحظ بخصوم مصابين بنوع من الغباء الإجرامي الشرس المستفحل، لذلك لست محتاجاً حتى لأن تثبت لهؤلاء المستعدين للخدمة أنك مختلف عن خصومك، ولا أن تعرض عليهم تعهدات ما ترضيهم لكي يقفوا في صفك، هم سيفعلون ذلك دون أن تطلب، وستندهش من ذلك، سيتنبه بعضهم إلى خطورة ما يفعله، لكنه عندما يفعل سيتكفل جمهور الوحوش الذي صنعته به، وما يحدث له سيجعل الذين بقوا في خدمتك أكثر اجتهاداً في إقناع أنفسهم بأنهم لا يفعلون شيئاً خاطئاً، فهم يحمون بلادهم من الضياع والتفكك والاحتلال والتقسيم، وستندهش عندما تجدهم يروجون أكاذيب كانوا من أمهر محاربيها وأشرفهم، وربما وجدت نفسك تستفيد من عطائهم الجديد في تطوير خطابك، بل وتضيق ذرعا بالأغبياء عديمي الموهبة الذين كنت تضطر للتعاون معهم لأن جهلهم الرخيص مطلوب بشدة لمن يحبون الجهل الرخيص وينفرون من الجهل المركب.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.