كيف تستسلم؟

20 مارس 2025
+ الخط -

لا تدخل الحرب.

ارفع رايتك البيضاء (إن أسعفتك الكوادكابتر) ومُت منكفئًا على وجهِك. ساعتها لن توفّر القذيفة لواقفٍ، لا يحمل الأبيض.
سيقتلونك أيضًا؛ لأنّ نفي وجودك هو المقصود، لا نفي مقاومتك وحدها.

**

قال متصهينٌ في ثياب ناصح:

-لا تبدأ حربًا وتتوقّع من عدوّك ألّا يُقاتل.

لن ندخل الحرب وننتظر من عدوّنا ألا يُقاتل. لكنّ هل على العدوّ أن يفعل هو الآخر؟ ألم يُبادر بالحرب ويحشرنا في زاوية قسرها حشرًا؛ فإمَا المواجهة وإمّا الفناء منذ 1948م، أو قبلها بقليل؟
ونحنُ ألم نفعل بالضبطِ ما تقول، أم أنّ هذا خطابٌ واحديّ الوجهة، ينطبقُ علينا ولا يصحّ لـ السادة؟
ثم؛ الحرب قائمةٌ بالفعل، منذ ما لا يحصى من الأسابيع والشهور (والسنين؟)، فدعك من الافتراضات الساذجة الفوقية الوقحة (الملفّقة كذلك)، وحدّثني عمّا وراء هذا الكلام الآن، تزامنًا مع عودة الإبادة وخطابات التهجير.

توقّع رحمة العدوّ بعد الاستسلام غباءٌ وجهل، وفي التاريخ أمثلة لا تنتهي لسحق المستسلمين

توقّع رحمة العدوّ بعد الاستسلام غباءٌ وجهل، وفي التاريخ أمثلة لا تنتهي لسحق المستسلمين، والذي لولاه لربّما أمكن تجنّب مصائرهم، إذا كان العدو يرتكب كلّ هذه الجرائم أثناء القتال فلماذا يوقفها مع توقّف القتال، هزيمةً أو تسليمًا؟

في سقوط دارس عام 1912، استسلم الألبان والعثمانيون للصرب، فماذا كان مصيرهم؟ مذابح جماعيّة وتنكيل ونهب "لم يكن الاستسلام نهاية المأساة، إنّما بداية لكارثة أكبر".

- لا تدخل حربًا وتنتظر من عدوّك أن يقاتل بالطريقة التي تريدها أو وفقًا للقانون.

لن ندخل الحرب وننتظر من عدوّنا أن يقاتل بالطريقة التي نريدها (أيّ طريقةٍ تلك؟)، أو وفقًا للقانون. لكن أخبرني ابتداءً من فضلك: هل هذا لغياب طريقة وانعدام قانون، أم أنّ تحديد ذلك (الطريقة والقانون) حقٌّ حصريٌّ لأصحاب الفيتو؟

وإن كان هل يمكنك أن تتذكّر كيف حصلوا على حقوق وضع القوانين وتنفيذها وقتما شاؤوا وكيفما شاؤوا؟

ماذا لو استمع هؤلاء "الضّخام" لمثل نصائحكَ تلك بأثرٍ رجعيّ؛ تراهم كانوا سيصلون لما هم عليه؟ وهل هناك قانونٌ يمكن فرضه على "القوي" في المعركة أصلاً، إلا بيدِ من هو أقوى وأكثر؟

هل تذكر ما حدث في مذبحة كاتين عام 1940، بعد استسلام البولنديين وانتظارهم تطبيق "القانون" عليهم، أو ناميبيا وأمر الإبادة بحق الهيريرو رغم استسلامهم، وانتهاء نحو 80% من السكّان كنتيجة مباشرة لهذه الجريمة؟

-لا تبدأ حربًا لا تستطيع إنهاءها.

"ما يقدر على القدرة إلا ربّنا"، وعدم انتهاء الحرب فورًا (بعيدًا عن مآلاتها المؤقتة) قد لا يعني إلا المزيد من الفرص للضغط والمناورة والاستنزاف، وبالتالي الفرص لمكافأة الموقع دون تكافؤ الحال.

وهل استطاع الأميركان إنهاء ما بدأوه في فيتنام مثلاً؟ وقد كانوا أكثر جندًا وأعزّ نفرًا، وما زال الفيتناميون مضرب المثل في الصمود والمقاومة، ومرمغة أنوف الأميركان في وحل غرورهم، تمامًا كما فعل الجزائريّون والألبانيّون، على اختلاف التجارب وما فيها.

المقاومة، رغم فداحة ثمنها، تجنّبك مصيراً أسوأ من مجرّد الهزيمة: تجنّبك الإبادة أو الخضوع التام، وتبقي وحدها على احتمالٍ ولو ضئيلٍ للحياة وللنصر

في أيّ "جردل زبالة" عثرت على هذه النصيحة النتنة؟ ألا تناقض مبدئيًّا واحدة من أساسات المراد من المقاومة في مواجهة الاحتلال (أيّ مقاومة وأي احتلال)؟

"يا فلسطينيّة فيتنام عليكو البشارة".

-لا تدخل حربًا لا تستطيع حماية المدنيين فيها.

المقاومة قد تعرّض المدنيين لخطرٍ مكثّف/لحظي، كردّة فعل عقابيّة ردعيّة أو حتى كجزء من ديناميكيّتها لحين اتّضاح المآلات، لكنّ غايتها الأخيرة هي حماية الناس والبلاد، لا بالطريقة التي قد تسهّل إبادتهم والتخلّص منهم، إنّما بإجبار العدوّ على التفكير مرّتين، قبل تكرار الدخول في صراع معهم، كي لا تتكرّر كوابيس صمودهم القاسية.

أما إذا كان الغرض (الآن وهنا) حماية المدنيين، فاسمع كلام ترامب ونتنياهو وليرحل الجميع عن هذه الأرض (لا فلسطين وحدها، إنّما أرض إسرائيل الكبرى) وأعدك أنك لن تحميهم رغم ذلك، هل تذكر مسيرة الدموع 1838م ، وما أدّت إليه آمال "ميجور ريدج" في تجنيب المدنيين ويلات الحرب؟ هل تذكر "سربرنيتسا" وما فعله الصرب بالمستسلمين؟ هل تذكر "دارس" وما جرى للمدنيين بعد الاستسلام؟

**

تعرفُ المقاومةَ أنّ مجرّد الوقوف الآن (لا التراجع) مصيره الفناء، بما أنّ الحرب دائرة (لا تنفي هذه اللفظة عنها صفة الإبادة، ولو بدت كذلك)، وتعرفُ أنّ المقصود وجودهم مطلقًا في أيّ شبرٍ من أرضهم مطلقًا (لا هم وحدهم بالمناسبة، وفلسطين ليست آخر حدود خريطتهم)، ومثال فتح وأوسلو لا يغيبُ عن أعينهم، ومآله معروضٌ على الملأ.

تقول النظرية إنّ الاستسلام قد ينهي القتال مؤقتًا، لكنّ الرعب الصهيونيّ لا يضمنُ حتى هذا، إنّما سيفتح الباب للمزيد من الإبادة، بينما المقاومة، رغم فداحة ثمنها، تجنّبك مصيرًا أسوأ من مجرّد الهزيمة: تجنّبك الإبادة أو الخضوع التام، وتبقي وحدها على احتمالٍ ولو ضئيلٍ للحياة وللنصر.