كنتُ غريبة وكانوا متشابهين
إلى متى سأظلّ أراعيكم وأرعاكم أيها المحظوظون الذين ألقت بكم الأرحام في طريقي؟
البارحة وأنا واقفة في الحافلة التي تقلني إلى بيتي، قمتُ بدفع شاب يبدو على هيئته البؤس والانحراف. كان لصًّا رصدتُ يدَهُ تعْبثُ داخل حقيبة فتاةٍ عشرينية. على الأغلب هي طالبة. دفعْتُه بقوّةٍ دون سابق تفكير، وأنا أشك اليوم أنني حقًا أقدمتُ على فعل ذلك. ولشدّة غرابة الموقف، ولدهشة الركاب، تسمّر الجميع في مكانه، نساءً ورجالًا، بمن فيهم اللصّ والضحية.
لقد تملكني شعور بتوقّف الزمن على حين غرة داخل حافلة، تسير دونما التفات لنا ولمصير صراعنا غير المتكافئ. لمحتُ السائقَ يشاهد المسرحية عبر مرآته هادئًا مُكمّلًا طريقه بثباتِ عنزةٍ على جبل. كان فعلًا يشبه العنزة بلحيته الخفيفة المبعثرة، ووجهه الطويل النحيف.
وبعد أن أيقن الواقفون والجالسون أنّ البحيرة عادت إلى سكونها الأوّل، أطالوا النظر إليّ، ثم أداروا وجوههم صوب النافذة يرَون اللاشيء ويفكرون في كلِّ شيءٍ؛ بأعين شاردة تشتهي صدفة جديدة تتيح لهم مُشاهدة مسرحية ثانية، بمواقفَ تحبس الأنفاس، لعلهم ينفصلون عن حياتهم الخاصة للحظات، بعبثيتها وبأعبائها اللامنتهية. حاجتي للتقدير ككلِّ إنسان جعلتني أتساءل: لماذا أُسدِل الستار دون أدنى إشادة بشجاعتي، ولو حتى بنظراتٍ داعمة ومنوِّهة؟
لم أكن قاسيةً. كنت أمّا أميّة تقليدية تضع نعلها البلاستيكي بجانبها ليحلّ بعض المشكلات الداخلية الطفيفة
طبعًا لن يركنَ السائقُ الحافلةَ ليوشحني بوسام من درجةِ فارسة، لكننا بطبيعتنا نحب الاعتراف بمحاسننا، وإن كان ما فعلته أمرًا بديهيًا يقول فقط إنني من فصيلة الإنسان. نعم أفهم كيف أبدو لهم، مخبولة مندفعة متهوّرة. كنتُ غريبة وكانوا متشابهين. كانوا كالنعاج التي يقودها راعٍ إلى الحظيرة بعد أن تغرب الشمس في عين حمئة. وكنتُ الكلبَ الحارس أنبحُ مستعدةً لعضّ الذئاب الغادرة. وكانت الحافلةُ قافلةً تسير.
وأنا أحكي ما حدث لأختي رباب، توقفَت عن تصفيف شعرِها. جلست، وعلت ملامحَها أماراتُ الخوف والفزع، ثم أخذت ترفعُ صوتها تشتكيني لأمّنا. طويلة القامة هذه تظل عزيزةً رغم اختلاف طباعنا وزوايا رؤانا. قبل أن تلتحق بالمطبخ لتغسل سمك السردين، قالت قولتها الشهيرة: "لقد تعبت وأنا أطلب منك الاهتمام بنفسك فقط. والله تعبتُ بلا فائدة".
الخميس ليلًا، اعتادت رباب أن تقرأ سورتَي الحشر والملك بصوتها الجهوري الجميل. أعدّت أمي مشروب الزنجبيل بالعسل مثل كلّ ليلةٍ، لتجلس في الشرفة المفتوحة على المطبخ، حيث جئت لأجلس قرب الثلاجة، أفتحها ثم أُدخل فيها رأسي لأجدَ نفسي نسيت لماذا فتحتها ثم لا أقفلها إلا عندما أتلقى أمرًا بنبرةٍ حازمة أعرفها جيّدًا.
بطبيعتنا نحب الاعتراف بمحاسننا، وإن كان ما فعلته أمرًا بديهيًا يقول فقط إنني من فصيلة الإنسان
عدتُ إلى شرودي بعينين تشبهان عيون السمك الجامدة. وعلى وقع الآيات والمقامات، قلت في نفسي: ما الذي جعل الله يخلق هذه السمكات المسكينات دون جفون نُغمضها لها كما يُفعَل بنا إذ نموت؟ فكرت أيضًا أنّ هناك بعض الصيادين من لا يُمهلها زمن الاحتضار، بل يحرمها ارتعاشها الأخير، ويلقي بها في مقلاةِ زيتٍ صغيرة أمام البحر العظيم. فكرت في السلاحف أيضًا؛ بفضل دارها المتنقلة الثقيلة، تنجو من دمويتنا وهمجيتنا. وحين لا يتعلّق الأمر بالمأكل والمشرب، تُدخل رأسها بوقار وحكمة، لتهتم بشؤونها الخاصة. قد تكون منشغلةً بتنظيف أركان بيتها الخاص، ببطئها المعتاد، غير مبالية بالسباق والمنافسة. إنه السر وراء بقائها الطويل على قيد الحياة. مُنعّمةً بسكينةٍ لا يدركها الأرانب. سكينة لا ندركها نحن!
قاطعَتْ أمي عقليَ الذي لا يتوقف:
- تعالي إلى جانبي يا رجاء وأخبريني عمن يشغل قلبكِ؟ أهو طويل القامة بكتفين عريضين وعروق يد بارزة؟
ضحكتُ وأجبتُها:
- بالله عليك يا أمي، أليس في جعبتكِ موضوع للحديث غير هذا؟ ألا تملّين؟ لا يسعني أن أشرح لك ككلّ مرّة أنني أخاف أن أقحم نفسي بوضع جديد لا يلائمني.
- وأنتِ لا تملّين من وحدتك هذه يا فتاة؟ دعيني أفرح أنا وأختك. أحيانًا لا أفهمك!
- كان هنالك رجل وحيد جدير بالحبّ يا ماما الطيبة، وقد فزتِ به وفزنا بحنوّه وعطفه جميعًا.
- ألف رحمة ونور على روحه، سيدي حبيبي علي. لم يحدث أن صرخ في وجهي يومًا. كان الدفء والسلام يعمّران بفضله هذا البيت. وكان يناديكما بالنجمتين. أَحبَّكما حبًّا يعجزُ عن وصفه الشعراء. كان يحزن كلما علم أنني عاقبت إحداكما. لم أكن قاسيةً. كنت أمًّا أميّة تقليدية تضع نعلها البلاستيكي بجانبها ليحلّ بعض المشكلات الداخلية الطفيفة، ككلّ الأمهات الحريصات على تربية أبنائهنّ، حتى لو كان الأسلوب غير سليم.
ضحكنا نحن الثلاثة وأخذتْ رباب تجهّز مكوّنات طاجين كفتة السردين الذي طالما اشتهرت به مدينة آسفي. رفعت رأسها إلى رفّ التوابل، لِتجد أنّ زجاجة ورق سيدنا موسى (ورق الغار) خالية. لبستْ جلبابها وجرّت يدي إليها لنذهب معًا عند الحاج حسن العطار. اشترينا ورق الغار. فجأة أمطرت السماء بغزارةٍ غير متوقّعة. كانت القطرة تشبه رشفة فنجان. سمعتُ أختي تطلب الحناء وزهرَ البابونج والصابون البلدي. فهمت أنه قرار فجائي له علاقة بحمام مغربي قصد تسخين عظامنا المتجمدة. لا بدّ أنها فكرت بالموازاة في فاكهة اليوسفي (الماندرين) أو "الماندالين" كما يحلو للبعض تسمِيتُه. هي حزمة طقوس بديعة بدأ المغاربة في التخلّي عنها بداية الألفية الثالثة.
أعطانا الحاج حسن ما طلبناه، ثم قال بابتسامة طيبة رؤوفة: لقد كنتِ شجاعة يا رجاء كوالدكِ السي علي. لقد فعل الشيء نفسه ذات يوم بالسوق الأسبوعي، وذاك الجرح أعلى حاجبه كان ثمن بسالته.
لَم أسأل والدي يومًا عن أثر جرحه. وجهه كان قمرًا مكتملًا في عيوننا دائمًا. ولم أسأل رباب لِمَ تجري الآن بأكبر سرعتها الممكنة، تحت القطرات الكبيرة المنهمرة بشجاعة وإقدام. كنت أهرول مُكرهة خلف أختي، رافعة رأسي إلى أعلى. وقفت لأتأمل الغيوم، وجدتها متفرجة وصامتة، مثل الواقفين والجالسين في حافلة الأمس.