كلب حباشو الذي أقلع عن العواء

كلب حباشو الذي أقلع عن العواء

16 فبراير 2022
+ الخط -

تشريق وتغريب (6)

قال أبو أحمد، في بداية الاتصال، إن ولع الشعوب الأوربية بالكلاب لا يعجبه. وأضاف:

- يعني دخيل الذي خلقك وصورك، أيش اللي يخليهم يحبوا الكلب؟

قلت: بعض أبناء بلدنا، كما تعلم يا أبو أحمد، يتحسسون من كلمة ديمقراطية، والحساسية، كما تعلم، تسبب لهم حكة، فتراهم يسندون ظهورهم على الجدران ويهرشونها، فيظن مَن يراهم أنهم مقمّلون أو جربانون، حاشاك. ولذلك سأتجنب استخدام كلمة "الديمقراطية"، وأستخدم كلمات أخرى، فأقول:

- إذا أردنا أن نكون عادلين، ومنصفين، وموضوعيين؛ يجب علينا أن نحترم عادات المجتمع الأوربي الذي أوينا إليه.. هم يحبون الكلاب، ويربونها، ويرعونها، طيب، فليكن. أليسوا أحراراً؟ المهم في الأمر أنهم لم يجبرونا على حب الكلاب، يعني، نحن أيضاً، أحرار. ولكن مفهوم الحرية كما نفهمه، أنا وأنت، لا يقبله عدد كبير من أبناء بلدنا. وأحياناً يقومون بتصرفات غريبة، ومضحكة.

- مثل ماذا؟

- مثل واحد يتسلق الجبال، ويهبط إلى الوديان، ويتعرض لخطر الوقوع في يد الجندرمة، حتى يصبح ضمن الأراضي التركية، وهناك يتلهوج لعدة أشهر، حتى يصل إلى إزمير، وبعد أن يدفع للمهرب الشيء الفلاني، يركب البلم المطاطي، ويغامر بالذهاب إلى اليونان، وأحياناً يقع البلم في يد خفر السواحل ويعاد إلى مكانه، ويُسجن أياماً، ويفرج عنه، فيعيد المحاولة مثل سيزيف، حتى يصل أخيراً إلى اليونان، ومن هناك يبدأ رحلة شاقة يذوق خلالها الأمرين، إلى أن يصل دولة أوربية، لنفترض أنها هولندا، وبعد أن تنتهي مرحلة الكامب، تتكرم عليه الدولة التي لجأ إليها، ببيت مكيف صيفاً شتاء، وراتب، وما إن يشم رائحة إبطه حتى يبدأ بالتذمر، فإذا رأى امرأة هولندية سافرة ومزلطة، يقول:

- شو هاد ياه؟ جابونا لهون حتى يعلمونا الفسوق؟

وإذا دخن نرجيلة في مكان يُمنع فيه تدخين الأركيلة، ومنعه البوليس من إكمالها يقول:

- هدول الهولنديين مستبدين.. جابونا لهون حتى يغيروا لنا عاداتنا وتقاليدنا؟

يبدو أن كلابنا أحسن من الكلاب الأوربية، على الأقل أنت ألفتَ على كلب حباشو قصة قصيرة جميلة

ضحك أبو أحمد وقال: أحلى عبارة، برأيي، هي عبارة (جابونا لهون). وكأن الهولنديين أرسلوا إليه بطاقة مثل التي جهزتُها أنا، حينما كنت في سن المراهقة، لحبيبتي.

- أيوه. الآن كمشتك يا أبو أحمد. يعني كان عندك حبيبة. احكِ لي عنها إذا سمحت.

ضحك وقال: الله يسامحك. أنا كان عندي حبيبة؟ يا سيدي، أنا لما كنت في الصف التاسع، عمري حوالي 16 سنة تقريباً، أحببت فتاة تكبرني بأربع سنين. طبعاً هي لم تكن تعرف ذلك. كان بيتها يبعد عن بيتنا حوالي خمسون متراً، وأنا كنت أصعد إلى سطح منزلنا، وأتسلق حائطاً متشققاً يمكن أن يقع بي في أية لحظة ويقتلني، مثلما قتلتْ البمبه عمَّك "جميل"، وعندما كنت أصل إلى سطح الشقة الصغيرة ذات الجدار المتشقق، ولئلا يراني أحد، كنت أزحف على بطني، حتى أصل الحافة، فأرسل بصري، من خلال حجرين كبيرين موضوعين على الحافة، نحو سطح دارها.. وأنتظر ساعات بهذه الوضعية حتى تظهر الفتاة، ومعها سطل يحتوي على قطع ثياب مغسولة، وتبدأ بنشرها، وكان كُمُّ قميصها، أثناء نشر الغسيل، ينحسر فأرى زندها الأبيض، وهذا كل ما أراه، فيكاد قلبي أن يتوقف من الانفعال. وذات يوم خطر لي أن أكتب لها رسالة، أعبر لها فيها عن هيامي (بل جنوني) بها، فأتيت بورقة بيضاء مسطرة، وأقلام تلوين، وصرت أكتب كل كلمة بلون، وأي كلام؟ الله وكيلك يا أبو مرداس كله علاك بعلاك، وبعدما اكتملت الرسالة أحضرت قداحة، وأحرقت الطرف العلوي الأيسر من الورقة، بما يعني أن قلبي محترق لأجلها.. ولن أطيل عليك، الرسالة بقيت في جيبي أيام، كنت خلالها أكمن للفتاة في الزقاق حتى تخرج، لكي أعطيها إياها، ولكنني، حينما أراها، كنت أجبن، وأهرب مثل أرنب..

- لو أن حائط الشقة تهدم بك وتسبب لك بأذى لقلت مخاطباً البنت: لعنة الله عليكِ أنت السبب! يعني مثل صاحبنا الذي يلوم الهولنديين لأنهم لم يغيروا عاداتهم بما يتناسب مع عاداته وتقاليده.

- ولو أن الهولنديين كتبوا رسالة لصاحبنا الذي حكيتَ عنه، وحرقوا طرفها دليلاً على اللوعة، لكان من حقه أن يلومهم. المهم. أريد أن أذكرك الآن بأننا، قبل هذه التشريقات والتغريبات، كنا نحكي عن الكلاب.

- أي نعم. أنت، يا أبو أحمد، لم ترَ الكلاب الأوربية، معظمها غريبة الشكل، ونَعُّومة، وقلما تصادف في بلادهم كلباً مثل كلب حباشو.

- ومين هادا حباشو بلا صغرة؟

- حباشو هو ضارب الطبل الذي كان يعيش في قرية حزانو. كان رجلاً طيباً جداً، أصله من جماعة غجرية كانت تقطن في الحارة الغربية من معرتمصرين، ويُطلق عليهم اسم "المطاربة"، مختصون بضرب الطبل والنفخ بالمزمار، وإحياء الأعراس. وكان أهالي قرية حزانو كلهم، بلا استثناء، يحبون العم حباشو، باعتباره صانعَ أفراحهم، وراعي أعراسهم.. أنا كنت أذهب من معرتمصرين إلى حزانو، برفقة والدي. كان والدي في تلك الأيام يقيم نصف إقامة في حزانو مع زوجته الثانية، خالتي أم طلال رحمة الله عليها، وأبنائه، (إخوتي)، وبعدما توفي، في أواخر سنة 1967، بقيتُ أذهب إلى حزانو، لوجود إخوتي فيها، بالإضافة إلى بعض المعارف والأصدقاء.. وكان عند حباشو كلب لا يقل اندفاعاً وسرعة وحيوية عن حصان امرئ القيس الذي وصفه وصفاً تعجزُ حياله قوانين الفيزياء (الصوت، والضوء، والميكانيك والقدرة):

مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيلُ من علِ

وكان، أعني كلب حباشو، إذا لمح سيارة قادمة، يركض ملاقياً إياها بسرعة البرق، إلى أن يبلغها، ثم يفرمل، ويستدير ويركض وراءها في الاتجاه المعاكس بعد أن تكون هي قد تجاوزته، وأثناء ذلك لا يتوقف عن العواء.. ومرت السنون، وكبر الكلب، (خَتْيَر) وتباطأت حركتُه، وصار يمضي جل أوقاته جالساً متكوراً على نفسه، وسواء مرت بقربه سيارة، أو موتوسيكل، أو بسكليت، أو أناس راجلون، لا يكترث، ولا يتحرك، وأصبحت حكمته المفضلة في الحياة: ما لنا وما للناس؟ وإذا اضطر لأن يعوي يخرج صوته مكسراً مقطشاً لا يكاد يغادر قعر حلقه.

ضحك أبو أحمد وقال:

- يبدو أن كلابنا أحسن من الكلاب الأوربية، على الأقل أنت ألفتَ على كلب حباشو قصة قصيرة جميلة.

- الأوربيون يؤلفون قصصاً وروايات عن الكلاب أكثر منا بكثير، لأنها داخلة في صميم حياتهم. ولعلمك، فإن الروائي العظيم فيودور دستويفسكي من النادر أن يكتب رواية لا يكون في ظل أحدِ أبطالها كلب. وإذا كان هذا يعجبك يمكننا أن نتحدث فيه خلال اتصال قادم.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...