كلب الوحدة الوطنية

كلب الوحدة الوطنية

09 مارس 2021
+ الخط -

كنت يومها في سنتي الثالثة بكلية الإعلام، وكنت أعيش قصة حب عاصفة، من طرفي طبعاً، فمن الطرف الثاني لم يكن هناك لا عاصفة ولا حب، كانت هناك فقط قصة تدور أحداثها بالكامل في المسافة الواقعة بين خيالي وقلبي، وكأي محب غارق في الأوهام لشوشته، تصورت أنني لو اقتربت من الله تعالى وصليت الفرض بفرضه في الجامع، بدلاً من الاكتفاء بالصلاة أيام الامتحانات، سيكرمني الله وسأتزوج حبيبتي وأحقق كل أحلامي التي أرفض الاعتراف بكونها أوهاماً.

كان الجامع الأقرب إلى بيتي يقع على أول شارع المحطة في الجيزة، وكان يصلي بنا فيه إمام غريب جداً استلهمت من شخصيته الغرائبية قصة (عندما انفضح الشيخ عرفة فضيحة القطط على المنبر)، والتي نشرتها في مجموعتي القصصية الأولى (بني بجم)، وكان من النوع الذي كلما فتح فمه يضعك في اختبارات حقيقية مع الدين والوجود، حتى أن صديقاً مهووساً بنظرية المؤامرة كان يرى أن الشيخ عرفة يقبض من السفارة الإسرائيلية مرتباً شهرياً لكي يقوم بتكفير وتطليع دين أغلب من يصلون خلفه ويستمعون إلى خطبه البلهاء. في تلك الأيام من عام 1994، حدثت ضجة بسبب خطبة لواعظ كان شهيراً وقتها، اسمه الدكتور عمر عبد الكافي، أفتى فيها مع أنه ليس مفتياً بحرمة تهنئة المسلمين للمسيحيين في أعيادهم، وشنت عليه مجلة (روز اليوسف) حملة عنيفة اضطرته إلى أن يكذب أنه قال ذلك، فنشروا له نص ما قاله مستندين إلى شريط مسجل. وفي وسط تلك الأجواء المتوترة التي توسع فيها النقاش عن موضوع عيد القيامة وتهنئة المسلمين للمسيحيين، شعر الشيخ عرفة بالاستفزاز لسبب غير معلوم، ودون أن يطلب رأيه أحد، قام بعد صلاة المغرب ونَتَع كلمة حذر فيها المسلمين من تهنئة المسيحيين بعيدهم، فتفاعل معه بعض الحضور وطنّشه البعض الآخر.

من شدة استفزازي من الجهل الطائفي الذي دلقه الشيخ عرفة علينا بعد الصلاة، كنت أتمنى أن يقوم أحد بالاعتراض على كلامه لكي أضم صوتي إلى صوته وأنتهز أي فرصة لكي أطبق في زمارة رقبته مكافأة له على مجمل أعماله السوداء، لكن أحداً لم يعترض على ما قاله بصوت عال، بل اكتفى البعض القليل بلوي شفته امتعاضاً مما سمعه، وحين انفض جمع المصلين وخرجت معهم شعرت بتأنيب الضمير لأنني سكت على كلام الشيخ عرفة المليء طائفية وجهلاً، وقررت أن أقوم باتخاذ موقف إيجابي على الفور.

هداني تفكيري إلى ضرورة اتخاذ فعل رمزي لمعاندة الشيخ الجهول، فقررت الذهاب إلى صديق مسيحي يسكن بالقرب مني لكي أهنئه بعيد القيامة، بالطبع كان يمكن أن أنتظر حتى أذهب إلى الكلية في اليوم التالي وأقوم بذلك، لكنني قررت ألا أؤجل فعل الوحدة الوطنية إلى الغد وأن أذهب في التو واللحظة لأهنئ أخي وصديقي أكرم متواضع لاوندي اسطفانوس، الذي كنت أحفظ اسمه الرباعي لأنه كان يجلس قبلي في لجان الامتحانات وكنت حتى قبل أن أعرفه، أقرأ اسمه قبل اسمي في سائر الكشوف الجامعية.

رجعت إلى مكاني على كنبة الصالون وسط سيل من الاعتذارات والتأسّفات، مع أنني متأكد أن كل من حضر الموقف كان يتمنى أن تتاح له فرصة الارتماء على الأرض من الضحك

كان والد أكرم يمتلك مصنع زبادي في منطقة العمرانية بالقرب من شارع المحطة الذي أسكن فيه، وأذكر أنني وجدت لدى البقال ذات مرة علبة زبادي تحمل اسم عائلته (لاوندي)، فقلت للبقال بفخر إن ابن صاحب المصنع "زميلي في الكلية وحبيبي يعني وكده"، وبالطبع كان رده المباشر علي: "طيب ما تكلمه ينزل لنا السعر شوية عشان نطلع بمصلحة من وراك وأنا هاراعيك"، وهو ما لم أقم به بالطبع، فضلاً عن أن تسرعي في الكشف عن صداقتي بأكرم، حرمني من حقي في تغيير نوع الزبادي الذي أشتريه، لكي لا يفتح ذلك باب شك لدى البقال فيضر بمنتج أكرم، خصوصاً أن "زباديهم" كان ممتازاً بالفعل.

كنت أعرف مكان المصنع وأعرف أن أكرم يسكن فوقه مباشرة، لكنني لم أكن قد دخلت بيته من قبل، ولأنني كنت ذاهباً من غير موعد، فقد قررت أن أنادي على أكرم من الشارع وأطلب منه أن ينزل لكي أهنئه وأنصرف، خاصة أنني كنت قد ذهبت إلى الجامع وأنا أرتدي "تريننج سوت" أو كما ندعوه اختصاراً "ترينج"، كانت ميزته الوحيدة أنه نظيف ولا تفوح منه رائحة العرق، وشبشباً غير مشرف على الإطلاق، صنع في الصين من مواد بترولية مشكوك في سلامتها، وقد جعلني إدراكي لحقيقة ما أرتديه، أفكر للحظات في العودة إلى شقتي لكي أقوم بتغيير ملابسي ثم أذهب لأكرم، لكنني قلت لنفسي: "لأ حلاوتها في حموتها"، متغلباً على شيطاني الموسوس لي دائماً بالكسل، والذي كنت أعلم أنني لو صعدت إلى غرفتي لن يتركني أنزل ثانية.

لم أعمل مع الأسف حساب أن أكرم صعيدي الأصل مع أنه مولود في الجيزة، ولذلك كان يستحيل أن يسمح لي بالتعدية تحت بيته دون أن أطلع وآخذ واجبي كاملاً، ولذلك وجدت نفسي فجأة وسط احتفال عائلته بالعيد، وأنا أرتدي ذلك الترينج المزري والشبشب الذي يزيد قبحه من تجسيد العيوب الخَلقية لأصابع قدميّ، وكانت تلك المرة الأولى التي ألتقي فيها بأم أكرم التي كانت قد أرسلت لي معه من قبل في رمضانين سابقين متواليين، صينية بسبوسة رائعة، وصينية رقاق أروع، وتعاملت مع كليهما بوصفهما غنيمة لا بد أن أنفرد بها وأخبئها بعيداً عن أيدي الوحوش التي كنت أسكن معها، لأنني لم أكن أستطيع القيام بكل صينية على بُقّ واحد، أو الكذب خيبة، كنت أستطيع، لكنني كنت أحب أن أطيل مدة الاستمتاع بها، وللأسف كانت نتيجة طمعي في المرتين، أن النمل والصراصير شاركتني في ما تبقى في الصينية ودفعتني إلى رميها، فتمنيت لو كنت قد قمت بالصينيتين مرة واحدة.

أم أكرم بلطفها وجمالها، تعاملت معي كأنني فرد من العائلة، ولذلك من الطبيعي أن يكون موجوداً في الصالون بالترينج والشبشب وسط عائلته. لم يكن أبوه موجوداً يومها على ما أذكر، وأخوه الأكبر استقبلني أحسن استقبال. كل شيء كان على ما يرام، إلى أن خرج من عرفت أنه كلب العائلة من غرفة ما ودخل إلى المشهد بصورة غير متوقعة. كان كلباً ضئيل الحجم من النوع الذي علمتنا السينما أن اسمه "كنيش"، ولم يكن شكله "الكيوت" يوحي بالعدوانية التي سرعان ما بدت حين جثم في مدخل الصالون وهو ينظر إلي شزراً، ثم بدأ في الزمجرة، فتوترت لأني أخاف من الكلاب جداً، وأكرم قال لكي يهدئني إن كلبهم العزيز غير متعود على الضيوف الذين يراهم لأول مرة، ثم بدأ يكلم الكلب ويشتمه بهزار كان يفترض أن يهدئه، ويبدو أن الكلب لم يعجبه أن يهزر معه أكرم أمام غريبٍ غريب المظهر، فقام فجأة بتشغيل وضع الطيران، وأخذ المسافة من أول الصالون وحتى رجلي في وثبة واحدة انتهت في رجلي، لكنه لحسن الحظ لم يقرر عض إصبع رجلي الكبير البادي من الشبشب، مفضلاً أن يقوم بهبش رجل بنطلون الترينج والتعلق به.

عرفت ذلك، لأنني حين دفعني الرعب للقفز فوق الكرسي، أخذت الكلب معي وهو متشبث برجل البنطلون، في حين كنت أسند على الحائط بيد لكيلا أقع، وأمسك باليد الثانية وسطي لكيلا ينزل البنطلون مع فم الكلب فيظهر ما ينافي الوحدة الوطنية ويسيء إليها، ولحسن الحظ لم يطل الموضوع، لأن أكرم شد الكلب وأبعده عني بقوة، فكشف بذلك عن متانة تصنيع الترينج الذي لم يلتصق ببعضه بأسنان الكلب الحادة، أو أن الكلب لم يحب طعم ما ذاقه فلم يستنظف أخذ ذكرى من البنطلون.

رجعت إلى مكاني على كنبة الصالون وسط سيل من الاعتذارات والتأسّفات، مع أنني متأكد أن كل من حضر الموقف كان يتمنى أن تتاح له فرصة الارتماء على الأرض من الضحك، ضحك بدموع وأصوات حلقية ودبدبة رجلين على الأرض وما إلى ذلك، لكنهم بكل جدعنة ولطف تحملوا وصمدوا وقرروا تأجيل الضحك حتى أنزل.

برغم إبعاد الكلب عن المكان وهو يتعرض للتعنيف واللوم، ظل صوت نباحه الغاضب واصلاً إلى الصالون ومخيماً على أجواء القعدة، وبرغم أنهم ذهبوا به إلى أقصى ناحية في البيت الكبير، إلا أن صوته القوي ظل مسموعاً، وقال أكرم تعليقاً يحاول به فتح موضوع لتغيير الجو المتوتر، شارحاً بلهجة الخبير البيولوجي أن الكلاب الصغيرة تحاول بالصوت العالي والشراسة أن تعوض إحساسها بالنقص، لكنها في النهاية شراسة تافهة، ولو كان شراسة مؤذية لكان قد عضني بالفعل، فزغرت أم أكرم له لأن تعليقه بدا لها غير مناسب.

اتسحبت من لساني، وقررت أن أضيف إلى القعدة "التاتش بتاعي"، فقلت محاولاً إظهار أنني أخذت الموضوع ببساطة: "أحسن يكون الكلب ده ما بيحبش المسلمين"، وبالطبع لم يكن تعليقي موفقاً بالمرة، وحين رأيت ذلك على وجوه الحاضرين، اضطررت للتأكيد على أنني أهزّر والله، وهزاري سخيف دائماً، "حتى اسألوا أكرم"، وبعد لحظات من الصمت، نطق أحد أفراد العائلة الذي يبدو أنه كان منشغلاً بمحاولة إيجاد تفسير لما قام به الكلب، وقال ببراءة: "الغريب إن دي أول مرة يعملها مع أي حد من ضيوفنا مسلمين أو مسيحيين"، وبعد لحظة تفكير أضاف قائلاً: "يمكن عشان أول مرة ييجي لنا ضيف لابس شبشب"، لكنه من كرم أخلاقه لم يكمل قائلاً "شبشب معفن زي ده"، وبالطبع كان من الصعب بعد تعليق كهذا أن يكتم أحد رغبته العارمة في الضحك، خاصة أنني كنت أول الذين انفجروا في الضحك العالي الذي غطى أخيراً على صوت الكلب.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.