كان بركاناً خاملاً... وفجأة انفجر
دخل مُدرّس الرياضيات إلى المكتبة ضحوة النهار، كان شيوعيّاً ملتزماً، والآن تاب -سامحه الله- وكان ينتمي في ما مضى إلى أشدّ الفصائل الشيوعيّة السوريّة ثوريّة أو قُل تطرّفاً. كان وجهه مكفهرّاً مثل سماء يناير/ كانون الثاني. سألته: ما الخبر؟ فكان هذا الحوار:
- محنة عظيمة ألمّت بي من حيث أدري ولا أدري، لقد استشهد ابني الوحيد في بادية محافظة الرقّة السوريّة، نعم، قتل، وأحسبه في الجنة إن شاء الله، وترك لنا ابنتين صغيرتين ثمرة زاوجه المُبكّر بعد أن التحق بصفوف تنظيم "داعش"، وصار أميراً صغيراً من أمراء هذا التنظيم.
- كنتُ أحسب أنّه ما زال في إحدى الجامعات التركيّة يدرس العلوم الاقتصادية. ما الذي حصل حتى ترك تلك الحياة الجامعيّة المريحة والتحق بصفوف تنظيم الدولة؟
- لم يكمل دراسته، هرب منها، ولم أستطع إقناعه وهدايته إلى الطريق المستقيم، لقد فعلتُ المستحيل، لكن ذهبت مستحيلاتي أدراج الرياح. فتركتُ الأمر لمدبّر الأمر، كان يُخطّط بينه وبين نفسه لذلك الأمر الذي أصرّ عليه إصراراً عجيباً، كان همّه الوحيد في هذه الدنيا الالتحاق بصفوف تنظيم "داعش" في الرقّة، وكأنّ التنظيم كان مغناطيساً وابني قطعة حديد، فجذبته. هل كان في مجالها، وأنا لا أدري؟ لقد فعل المغناطيس فعله.
- من ينظر إلى ابنك ويُعاشره يجده رزيناً، رابط الجأش، قوياً، صموتاً، ناضجاً، وقد يظنه حكيماً لقلّة كلامه، تُحسّه أكبر من عمره. كيف اندفع هذه الاندفاعة المُفاجئة؟
شكل الدولة، كما تجلّى عربيا، أوصل المجتمعات إلى الحروب الأهلية التي نعيش بعض نتائجها اليوم، لأنّ الحاكم الفرد سعى مع عسكره ليكون هو الدولة
- نعم، كان بركاناً خاملاً في العشرين من عمره، وفجأة، انفجر، كما تفعل البراكين، والأدهى أن البركان لا يُخبرك ما يريد فعله، فعله يخبرك عن فعله. حين ذهبتُ إليه أوّل مرّة في زيارة قصيرة لمدينة الرقّة عاصمة الدولة الإسلاميّة في سوريّة لأحاول معه للمرّة الأخيرة، لعل وعسى.
- فماذا رأيت؟
- يا سيدي شاهدتُ شاباً مهيباً، مُلتحياً، ولم يكن ملتحياً قبل ذلك، مرتدياً عدّة الحرب؛ جعبة، بارودة رشاشة، حزاماً ناسفاً، قنابل يدوية، في زي تنظيم "داعش". ذهلتُ من هذا التغيّر في هيئته، لقد قطع شوطاً بعيداً خلال أشهر معدودات، وتعال جِد بداية خيط الحديث معه، هذا من أصعب الأمور في الحياة، ابتعدتُ عن الجدل معه قدر المُستطاع، على مبدأ لا تُجادل يا أخي. كنتُ أنظر إليه وإلى رفاقه وأقول في سري: هؤلاء الشباب في شوارع وساحات المدن والأرياف، وفي البوادي والقفار، تمرّدوا على شكل الدولة الحديث الذي تكرّس في الوطن العربي، والذي هو شكل "جمهوري ديمقراطي عسكري"، وهذه خلطة عجيبة غريبة، فيها القمح والشعير والزيوان. وقد كان المُنتج الرئيسي لهذا الشكل من الدولة: الفساد العام، ومن ثم قاد هذا الفساد العام إلى الفشل العام، شكل الدولة هذا أوصل المجتمعات في الجمهوريات العربية إلى الحروب الأهلية التي نعيش بعض نتائجها اليوم، لأنّ الحاكم الفرد سعى مع عسكره ليكون هو الدولة. وهؤلاء الشباب حاربوا هذا الشكل من الدولة الاستبداديّة التي يحكمها العسكر ويريدون العودة بها إلى مفهومها الأوّل: دولة بسيطة، تُقاد من حاكم بسيط من عامة الخلق، وليس إلهاً على كلِّ حال، بل بشر سويّ يخاف من ربِّ العباد الذي رفع السماء ووضع الميزان. قال لي في نهاية الحديث قبل أن أُغادر مدينة الرقّة حزيناً: جاء في الأثر أنّ خياطاً قال لابن المبارك: أنا أخيط ثياب السلاطين، فهل تخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: كلا، إنما أعوان الظلمة من يبيع الخيط والإبرة. أما أنت فمن الظلمة أنفسهم. فتركتُ ابني مكانه وعدتُ خائباً إلى مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية.
ما أتعس هذا الجيل الذي عاش في زمن أغبر، لا رؤية فيه، ولا وضوح
- آخر مرّة رأيتُ ابنك فيها كانت في حارتكم القريبة من جامع "سعد بن أبي وقاص" الذي كان مهد تجمعات التظاهرات كلّ يوم جمعة في مدينة إدلب، وفي بابه سقط أول شهيد في المدينة، الشاب محمد سيد عيسى، في 15 يوليو/ تموز 2011، وخرجت حينها أكبر جنازة تشيَّع في تاريخ المدينة. رأيت ابنك يزرع مع رفاقه حوض الزرع الذي يقسم شارعكم إلى نصفين. شاهدتُ شتول البندورة والفليفلة والباذنجان والبامية، ينقلون الماء في "عبوات بلاستيكيّة" لسقاية مزرعتهم والاعتناء بهذه الشتلات عناية فائقة، وكأنها وطنهم. وكان الناس يضحكون -عند المرور بهم- من عبث هؤلاء الشباب الذين تجدهم في المظاهرات كما تجدهم في القضايا الملحة في الحارة.
- أنا مجروح، وجرحي غائر لا يزال ينزف، لا حول ولا قوة إلا بالله، والآن في هذه الساعات، لا أستطيع تفسير الأمور بشكل صحيح، بيني وبين نفسي أقول: من فعل بهؤلاء الشباب ما فعل، لو تراهم في مضاربهم هُنالك في البادية ستجدهم أنقياء القلب والوجدان، من يُرد الشهادة فلا بُدّ أن يكون أبيض القلب والسريرة، وليس وحشاً ضارياً، لأن الشهيد يجود بآخر قطرة من دمه في سبيل هدف يؤمن به. كلا لم أجد في الرقة وحوشاً، وجدتُ ما وجدت، تركيبة عجيبة من البشر، عجزتُ عن قراءة وجهات نظرهم، هل كانوا وحوشاً آدمية؟ أنا لا أعرف، ولا أريد أن أعرف، لأنّ ابني على كل حال لم يكن وحشاً بكلّ تأكيد. يا الله ما أتعسنا! وما أتعس هذا الجيل الذي عاش في زمن أغبر، لا رؤية فيه، ولا وضوح!