كانا يلتهمان البوظة

05 ابريل 2025
+ الخط -

وجوه سعيدة بأسارير مرتاحة، أربع أو خمس صور بوضعيات مختلفة للزوجين السعيدين خلال عطلتهما في بلد أجنبي بعيد. تتصفح الصور التي عرضها فيسبوك عليك في شريط أحداثه المختارة من صفحات أصدقائك العديدة. تضغط اللايك ثم تبتسم بعد أن كان قلبك منقبضاً لنشرة أخبار نهار روتيني من اليوميات السيئة، نهار يبدأ بقراءة الجريدة ثم الاستماع إلى نشرات الأخبار الصباحية من الإذاعات وأنت تقوم بتنظيف المنزل.

تبتسم للصديقين الجميلين وأنت تتصفح شريط فيسبوك، أو بالأحرى أنت تكرّ البكرة التي عيّنها واختارها لك بناءً على تفضيلاتك حسب خوارزمياته. لكن، لمرأى البوست التالي، سرعان ما تشعر كما لو أن ضميرك قد قبض عليك، وإياهم، متلبسين بالابتسام، بالنسيان، ولو لثوانٍ، ما يجري حولكم من أهوال، دقيقة بدقيقة ولحظة بلحظة.

أهوال كان من غير الممكن أن يُصرف عنها النظر بتلك السهولة لو كانت نافذتك إلى ما يحدث في العالم وسيلة إخبارية أخرى كالجريدة أو المحطات الإخبارية. سهولة يواكبها تشتت في الانتباه وتنقل سريع بين العواطف من فرح إلى حزن، من غضب إلى سرور، من تضامن يدوم لحظات إلى لهو ومرح يدومان لثوانٍ. تنقل خفيف صمم له فيسبوك للتواصل، فصار يعيد صياغتنا في التفاعل مع ما هو حولنا.

تنتقل من صفحة إلى أخرى، من قصة إلى قصة تالية دون أن تمتص، عكس النحل في تنقله، ما يكفي من المعنى لتستغرق في الفكرة التي جذبتك. انتقال دايت، تافه، سطحي، كان من الممكن أن تغفر له صفاته تلك لو كان الموضوع ترفيهياً. لكن أخبار الإبادة والقتل اليومي؟ كيف يكون ذلك؟

مؤلم هذا الفيسبوك. مؤلم بشريط أحداثه العشوائي الذي يجعلنا نخجل من أنفسنا، من رغبتنا الغريزية بنسيان الحزن خصوصاً حين يطول مكوثه في قلوبنا، وبالأخص حين يرافقه العجز المؤكّد.

يكرّ شريط المستجدات الفيسبوكية: دعاية لشركة تنظيف للأثاث المنزلي راجت بعد الحرب الإسرائيلية المستمرة (من طرف واحد) على لبنان، صور في حقل ربيعي تفتح في عطلة العيد، ثم الكثيرون ممن ينشرون صوراً عائلية على مائدة العيد. ففيديو لولد غزاوي يركض حاملًا بعض متاع وقد تحول لونه إلى الرمادي بسبب غبار الباطون المتخلف عن قصف حدث للتو وهو يبكي صارخاً "والله خايف".

أشارك الفيديو ثم أعود إلى الشريط. صديق يسخر من ترامب، فذكرى سنوية لوالد أحد الأصدقاء، فصور لطرابلس في الخمسينيات تثبت أنها كانت متحضرة بدليل ثياب النساء. صور أخرى لرفح المبادة تحت ركام ما كان يوماً عمرانها، يليها شريط لقصف الإبادة يطير الناس فيه في الهواء قبل أن يتبددوا أشلاء. هل كان من نشروا صوراً سعيدة يعلمون مثلاً أن صورهم سوف يعرضها فيسبوك بعد صور الإبادة؟ أو بعد صورة ذلك الفتى الذي قتله مسلحون فالتون من أي عقال في سورية، ببنطاله الذي ربطه بحبل بدلاً من حزام لأنه ليس على قياسه؟

في تقاليدنا الجميلة، كان الناس يمتنعون عن إقامة الأفراح احتراماً لحزن جار، لِمَ لا نتشبه بهم طالما أن هناك حداداً في البيت المجاور

أصلاً لا يمكن لهم أن يختاروا كيف وأين ترد تلك الصور. وبالأساس لا ألومهم على فرحهم أو احتفالهم. فالدفاع عن النفس تجاه الحزن فطرة إنسانية خصوصاً إن طال أمد الكارثة. لكن، هل كان عليهم أن ينشروها؟ لقد أصبح نشر اليوميات ردة فعل ميكانيكية ربما يجب التروي والتفكير قبل القيام بها.

فشريط المستجدات الفيسبوكية خبيث بعشوائية خياراته. كم هي مفجعة أخبار مجاعة غزة، خصوصاً لو تلتها صور موائد عائلية في العيد السعيد؟ سعيد على بعضنا دون بعضنا الآخر. كم هي مثيرة للغضب بعد أن تليها صورة لأم قتل الإسرائيليون أبناءها الأربعة، ثم حطمت الجرافات الإسرائيلية قبورهم، فجلست يوم زيارة العيد أمام تلك القبور المحطمة، ولحظّها، نعم لحظّها، توفّر وجود أحدهم بجانبها في تلك اللحظة ليلتقط صورتها وقصتها ويرويها في شريط فيسبوك.

مجرم شريط الفيسبوك. يدربنا على الانتقال في ثوانٍ من متألمين لما تفعله إسرائيل بأهلنا في فلسطين ولبنان وسورية، إلى الابتسام ببلاهة لصديقين يلتهمان البوظة في بلد أجنبي.

والصديقان كما قلت، وغيرهم كثر، ليسا مذنبين في اقتناص تلك اللحظات وسرقتها من العمر.

ليسا مذنبين، صحيح. لكن ربما لباقةً، كان علينا وإياهما أن نعلن حداداً مستمراً على الأقل في حساباتنا على فيسبوك. أن يكون حداداً بالامتناع عن نشر الصور السعيدة التي تذكر أولئك الفاقدين لأقل قدر من الأمان أو السعادة، أن العالم، حتى ذاك المتعاطف معهم، لم يعد يستطيع أن يبالي بهم كل هذا الوقت، وأنه لذلك قرر الالتفات لحياته.

هل هذا كثير؟ لا أعتقد. ففي هذا تطويع لفيسبوك. وكما في تقاليدنا الجميلة، حين كان الناس يمتنعون عن إقامة الأفراح احتراماً لحزن جار، لِمَ لا نتشبه بهم طالما أن هناك حداداً في البيت المجاور.

وبيتنا المجاور ليس بعيداً. هو هنا في لبنان الذي يقصف يومياً ويغتال أبناؤه، وفي سورية التي يتوغل العدو مدنساً أراضيها وزارعاً الفتن، وفلسطين المبادة على مسمع ومرأى من كل المشتركين في فيسبوك.

كانا يأكلان البوظة، وأنا ضغطت على زر اللايك، فنلت طعنتي المستحقة في البوست التالي بقصيدة للشاعر الغزاوي يوسف القدرة، يقول:

أعادوا تشكيل الحواس:
العين ترى ولا تعترض،
اليد تلمس ولا ترتجف،
والقلب...
أقفل كصدفة ميتة على شاطئ مُهمل.
الإبادة الآن طبق يومي،
معلّبة، جاهزة،
تُقدَّم بملعقة إعلامية
وبقليل من كلمات «الأسف العميق»
صار الدم خلفية للمشهد،
وصوت الطائرات "نغمة" في لحن البقاء،
ونحن؟
نحن نحاول...
أهذا ما أرادوه؟
أن يُفسدوا البداهة؟
أن تُصبح الحياة مجرّد احتمال إحصائي؟