قراءة في مأزق العربية الفصحى

26 ابريل 2025
+ الخط -

تعيش اللغة العربية اليوم أزمة معقّدة، وذلك على الرغم من مرور قرابة قرنين على دخول الثقافة العربية في عصر إصلاح قادته نخبة من القامات الفكرية والأدبية الكبيرة من أمثال الطهطاوي، محمد عبده، العقاد، طه حسين وغيرهم، الذين أضافوا لهذه اللغة وجعلوها معاصرة وفاعلة في محيطها الثقافي، إلا أنّ الأزمة الحضارية التي تعيشها الثقافة العربية لا تسمح لهذه اللغة بأن تتبوّأ المكانة التي تليق بتاريخها والدور الذي لعبته في عصرها الذهبي. ويعتقد بعض المنتقدين أنّ العربية لغة تراثية قديمة غير قابلة لإصلاح أساسًا، لأسباب كثيرة، منها أنها لغة مبتورة لم يعد لها متحدثون أصليون (Native Speakers). كما أنّ اللهجات الصاعدة، بحسب رأي هؤلاء، هي لغات المستقبل، إذ ليس هناك من الناحية الموضوعية سبب يجعل وضع اللغة العربية يختلف عن وضع اللاتينية التي استبدلتها اللهجات القومية في عصر النهضة الأوربي.

وبالنظر إلى عدد من المؤشّرات المُرتبطة باللغة العربية الفصحى، يمكن القول إنّها تواجه أزمة حيوية خطيرة تضعها في موقع لغوي هشّ، أقرب إلى "اللغة المهدّدة " منها إلى اللغة الحيّة. فالفصحى لم تعد تُكتسب كلغة أم، بل تُلقَّن كلغة ثانية في المدرسة، ما يفقدها أحد أهم شروط الاستمرارية اللغوية؛ التداول الطبيعي بين الأجيال. وبحسب المعايير اللسانية، فإنّ اللغة التي تفقد متحدثيها الأصليين تصبح في وضعية احتضار (moribund)، حتى وإن ظلّت تُستخدم في الكتابة الرسمية أو المحافل الثقافية. غير أنّ إثارة هذا النقاش غالبًا ما تُقابل بردود فعل انفعالية، إذ يُنظر إلى الفصحى بوصفها رمزًا دينيًا وهُويّاتيا، ما يحول دون تحليل وضعها تحليلًا موضوعيًا، ويمنع أيّ مقاربة عقلانية لمآلها الحقيقي. والحال أنّ موت اللغات ليس أمرًا شاذًا في التاريخ، بل ظاهرة ثقافية متكرّرة، خاصة حين تتباين المسافة بين "اللغة المعيارية" من جهة، و"العاميات المحلية" أو ما يُعرف بالازدواجية اللغوية (Diglossia).

تُعدّ العربية في هذا السياق، من بين الثقافات القليلة التي تعاني من ازدواجية لغوية حادة. وبالرغم من أن التصوّر الشائع، حتى بين المثقفين، أنّ هذا الوضع اللغوي طبيعي كون جميع اللغات تتفرّع عنها لهجات تتطوّر في السياقات الشفهية اليومية، إلا أنّه من منظور لساني، ثمّة فروق كبيرة بين الفصحى واللهجات، تُفقد الأولى سلطة التوحيد المعياري، وتوسّع الهوّة مع العامية في البنيات النحوية، والمفردات، والصوتيات، ووظائف التداول، إلى درجة تجعل التواصل معها، بل وبين لهجاتها أيضاً صعباً من دون تعلّم مسبق. وإذا استمر هذا الوضع من دون تقارب أو إصلاح لغوي واعٍ، فقد يكون سببًا مباشرًا في تعزيز وضعية اللهجات، بحكم شرعية الأمر الواقع، ما يمكنها من إقصاء الفصحى تدريجيًا في الإعلام، والخطاب الديني، ولغة التدريس، ويجعلها محصورة الاستخدام في المجال الكتابي والأدب الرسمي بالخصوص.

الأزمة الحضارية التي تعيشها الثقافة العربية لا تسمح للغة العربية أن تتبوّأ المكانة التي تليق بتاريخها والدور الذي لعبته في عصرها الذهبي

وإذا كانت اللهجات المحلية تُعدّ عاملًا كبيرًا في إضعاف مكانة الفصحى، فإنّ التهديد الأكبر اليوم يتمثّل في التوسّع الكاسح للغات العولمة، وعلى رأسها الإنكليزية والفرنسية. فقد فرضت هذه اللغات نفسها، ليس فقط كلغاتٍ للإنتاج العلمي، والتكنولوجي، والتواصل الرسمي، وأصبحت تتغلغل في أنظمة التعليم، والإعلام، والإدارة، بل حتى في الحياة اليومية في كثير من البلدان العربية، حيث تُقدّم على أنّها أدوات للترقي الاجتماعي والانفتاح على العصر، بينما تُصوَّر العربية على أنّها لغة تقليدية، محافظة، عاجزة عن مواكبة متطلّبات الحداثة والتقدّم العلمي. وهكذا، يضيق عليها بشكل تدريجي في فضاءات الإنتاج، وتُختزل في مجالات محدّدة كالدين، والأدب، وبعض السياقات الرسمية، في حين تُكرَّس اللغات الأجنبية كلغات للحياة العملية والمعرفة المستقبلية. ومن منظور لساني وثقافي، تُظهر هذه الهيمنة انتقال المجتمعات العربية تدريجيًا من الازدواجية اللغوية إلى ما يمكن وصفه بـ"الازدواجية الثقافية" (cultural diglossia).

رغم كلّ ما سبق، فإنّ أزمة اللغة العربية اليوم هي في حقيقتها أزمة سياسية أكثر منها أزمة لغوية أو ثقافية. فضعف السياسات اللغوية، وغياب الإرادة السياسية لدى النخب الحاكمة المرتبطة في عدد من البلدان العربية بالفرنكوفونية أو الأنجلوساكسونية يجعل من مشروع النهوض بالعربية رهين اعتبارات إيديولوجية واقتصادية تتجاوز اللغة ذاتها. فعلى سبيل المثال، ما زالت فرنسا تمارس نفوذًا لغويًا وثقافيًا واسعًا في بلدان المغرب العربي، حيث تُستخدم الفرنسية كلغة للإدارة والتعليم العالي. وفي دول الخليج، هناك إصرار على اعتماد اللغة الإنكليزية كلغة تدريس للتخصّصات العلمية والطبية والتقنية. هذه الوضعية اللغوية تكرّس حالة من العزل الثقافي (cultural stratification) وتخلق انقسامات ثقافية عميقة تصبح فيها العربية لغة الفئات الأقل حظًا اجتماعيًا، وتكرّس الطبقية عبر عرقلة الصعود الاجتماعي من الطبقات الدنيا، وتظهر مطالب الإصلاح اللغوي بأنها مقتصرة على الطبقات الفقيرة والأوساط الدينية التقليدية.

أزمة اللغة العربية اليوم هي في حقيقتها أزمة سياسية أكثر منها أزمة لغوية أو ثقافية

ومما يكرّس التهميش المُمنهج للغة العربية غياب استثمار حقيقي في مجال الترجمة عامة، بما في ذلك ترجمة المناهج التعليمية التي تُتيح للطلاب دراسة جميع التخصّصات بلغتهم الأم، كما هو الحال في أغلب بلدان العالم، بما فيها الصين وألمانيا، "ودولة الكيان"، والتي تتبنى حكوماتها سياسات تهدف إلى إنتاج معرفة علمية باللغة الوطنية، وليس مجرّد استهلاكها. وهذا التقاعس العربي لا يعبّر فقط عن خلل تقني أو إداري، بل يكشف عن خلل أعمق في التصوّر العام لوظيفة اللغة في مشروع التنمية الثقافية والعلمية. فغياب السيادة اللغوية، إذا جاز التعبير، في العالم العربي يُنتج علاقة استهلاكية وهامشية بالمعرفة، ويُعزّز منطق التبعية الثقافية التي تعيق تشكّل ذات معرفية مستقلة قادرة على التفكير بلغتها وصياغة أسئلتها ضمن هويتها الحضارية. ومن جهة أخرى، تمكن ثورة الترجمة من تعزيز الهوية الثقافية وتحسين جودة التعليم، إذ إنّ توفير الإنتاج المعرفي العالمي بالعربية يمكّن عددًا أكبر من أفراد المجتمع من التعلّم والمنافسة والمساهمة في الإنتاج المعرفي الوطني في مجتمع خال من الطبقية اللغوية والاغتراب اللغوي.

أخيرًا، يساهم الموقف البارد والمُتواكل الذي تتبناه الأوساط الدينية في العالم العربي أيضًا في تهميش اللغة العربية الفصحى وإضعاف الحافز المجتمعي للتفاعل مع أزمتها. فالخطاب الديني السائد يعتبر أنّ العربية لغة مقدّسة محفوظة بحفظ القرآن، وهو افتراض يخلط بين حماية اللغة والحفاظ على دورها ومكانتها في المجتمع. فالدين الذي يحمي العربية من الزوال لا يحميها بالضرورة من التهميش والحصر في أدوار محدودة كما كان الحال مع اللغة العبرية التي بقيت زمناً طويلاً محصورة في الطقوس الدينية والنصوص المقدّسة قبل بعثها من جديد.

والحقيقة أنّ موت اللغة لا يعني انقراضها، بل يعني انفصالها عن المجتمع وتراجع دورها الفاعل فيه، حتى تصير لغة فلكلورية تُستحضر في المناسبات الثقافية والدينية، وتُقصى من وظيفتها التواصلية والفكرية والإبداعية. إنّ اللغة العربية تواجه لحظة مفصلية تتطلّب قراءة نقدية موضوعية لوضعها الراهن؛ فرغم أنها تمتلك عناصر مقاومة متجذّرة في مرجعيتها الدينية وتراثها الحضاري الغني، لكنها في حاجة ماسّة إلى مجهود جماعي يعيد ربطها بحياة الناس العملية، ويُفعّل حضورها كأداة للتواصل والمعرفة، لا كمجرّد رمز ديني أو ثقافي. وإن كان حفظ القرآن وعدًا إلهيًا، فإنّ الحفاظ على العربية مسؤولية بشرية تتطلّب سياسات لغوية فعّالة وإرادة مؤسساتية جادة.

كاتب وباحث مغربي
يحيى اقلعي
يحيى اقلعي باحث مغربي، حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الثقافية