قراءة في الردود حول وفاة نوال السعداوي

مدونة عامة

رفقة شقور

بالبداية أود أن أشير إلى أنني لن أتوقف في هذا المقال على النتاج الفكري للدكتورة نوال السعداوي ومواقفها السياسية والدينية والاجتماعية، وإنما على ردود الأفعال على وفاتها، فحالما خرج للعامة خبر رحيلها تراوحت ردود الأفعال بين عدة أنماط أذكر منها:

النمط العنفي اللفظي: تراوحت الكثير من الردود على وفاتها بين توجيه السباب والشتائم والتعريض المباشر بشخصها، وهذا الأمر لا يحدث بالأوساط الشعبية لأول مرة في أعقاب وفاة شخصية فكرية عربية وإنما حدث ذات الأمر عند وفاة محمد شحرور أيضاً، يبرز لدينا تيار يستسهل النيل من خصومه في الفضاء العام عن طريق توجيه العنف اللفظي والسباب والشتائم الجنسية، وما يعمق هذه المأساة أن هنالك شخصيات شعبوية في المجال الافتراضي العام وعلى أرض الواقع تغذي هذا النمط من ردود الأفعال العنفية والتي تتسم بلغة السوق والبذاءة، طالما هم يستطيعون جمع الشتامين والمسيئين ومن يستهلكون أدوات العنف اللفظي في مكان واحد ويتبادلون الإطراءات على صنيعهم ولا يجدون في ذلك أي حرج بين قطيع الشتامين والبذيئين.

النمط التكفيري: هذا النمط يسود عادة بين من لا يريدون القراءة لمن يخالفونهم بالرأي أو التوجه أو الذائقة حتى أو نظام الحياة، وهو يعكس مدى التقوقع بالفكرة الواحدة والرفض التام المطلق لكل من ينتقد تيار الفكرة الواحدة، ويتغذى التيار التكفيري على الجماهير التي تعتاش على نظرية المؤامرة على الدين، فالتيار التكفيري يحسن طرح نفسه على أنه ضحية صاحبة مظلومية وأن أي فكرة نقدية تواجهه هي مؤامرة متكاملة الأركان عليه وجودياً.

ساهم رواد التيار التكفيري دائماً في نشر حالة من الرعب والخوف بين العامة من تناولهم الأفكار بالتفكر والتفاكر والجدل والتجادل، فراحوا ينشرون بين أتباعهم أن الأفكار التي تنتقدهم يجب أن يتم إلغاؤها بل اقتلاعها من جذورها لأسباب أن لهم حصانة سماوية أو علوية تحصلوا عليها من مرجعية ما يدعون إليه، وبذلك ساهموا في تفشي ردود الأفعال العنفية اللفظية والسلوكية ضد كل من يخالفهم بالرأي أو الفكرة عبر التاريخ، فاستسهلوا حرق المؤلفات ونصب المقاصل والسجن والنفي على القراءة والمواجهة الفكرية والاشتباك مع الأفكار، فراحوا يجتهدون في القمع والنفي والقتل المعنوي والمادي لمن يخالفونهم وهذا كان أمراً مألوفاً في المجتمعات الدينية من كافة الأديان.

النمط الاستعلائي التصنيفي: هنالك حالة من الانشغال المستميت في تصنيف الشخصيات الفكرية ممن يناصبونهم العداء أو حتى أدنى اختلاف في الرأي..

النمط الإقصائي الإلغائي: طغى على ردود شرائح واسعة من شخصيات فكرية وسياسية ودينية هذا النمط من الردود، وهو نمط يشيع بين الناس أن القراءة ليست ضرورية كي يتم الحكم على الأشخاص طالما أن هنالك من يفعل ذلك ويحضر لهم الردود الجاهزة وينوب عنهم فكرياً ونقدياً وعقائدياً.

هذا النمط القائم على الإقصاء والإلغاء لا يؤسس لعقل فكري نقدي، ينقد الفكر بالفكر، وإنما يؤسس لتيار متطرف في تعليقاته ورود أفعاله على كل من يخالفه الرأي، فكمية العنف التي تحكمت بشريحة عريضة من التعليقات في أعقاب وفاة كل شخصية فكرية جدلية تشي بعمق المأزق الفكري والأخلاقي لدى النخب تارة وجماهيرهم تارة أخرى.

النمط الشخصي جداً: إفراغ الشخصيات الفكرية الجدلية من مضمونها الفكري ومواجهتها شخصياً أو صرف الأنظار عن نظام حياتها الخاص ومظهرها الخارجي بطريقة فيها عنف سلوكي وتنمّر واضح اتجاه أدق تفاصيلها أمر يتفشى بشكل واضح، والإشكال في هذا النمط ومقدار خطورته أنه تقوده شرائح واسعة من النخب بكل المجالات.

النمط الطهراني: هنالك مجموعة ممن يتلقون التجارب الإنسانية الفكرية عموماً من منظورهم الخاص جداً وحسب نشأتهم هم، فيحاكمون الكاتب أو الكاتبة بغض النظر عن منشأه ومعتقداته الخاصة أو الحقل الذي يجتهد فيه بأدوات دينية من منظورهم الخاص جداً، وهذا غير ممكن أن يحقق أي فائدة على المستوى الفكري وإنما منطلق يغذي العداوات العقائدية والإقصائية للآخر المختلف، فلا يمكن لأتباع دين أو فكرة أو قاطني منطقة جغرافية أن يحجبوا طوعاً عن أنفسهم ما يكتبه الآخر المختلف عنهم إلا إذا كانوا قد وصلوا إلى مرحلة ذاتية جداً من التمرين الداخلي على إطلاق العنان للرقيب الداخلي الذي فرضته أنظمة الحكم القمعية والعنفية والديكتاتورية عليهم في تلقي أي فكر مخالف، وهذا دليل ضعف وشعور بهشاشة بنيوية اتجاه كل فكر طارئ أو جديد.

غالباً ما يتبع المحاكمون الطهرانيون للتجارب الفكرية نمط الهجوم على العيوب الشخصية أو على بعض الاجتهادات الخاطئة للشخصيات الفكرية الجدلية، كي يقولوا للناس إنهم خطر على المجتمعات وعلى نظامها القائم وخطر على نواتها وكل مكوناتها، وهم لا يتورعون أيضاً عن الارتقاء على الاجتهادات الخاطئة للمفكرين الجدليين وطرح أنفسهم على أنهم غاية في الطهرانية العقلية والذاتية تمنعهم عن تعاطي نتاجات مشبوهة فكرياً كهذه، وبذلك هم يقضون على كل فضول لمن تسول له نفسه قراءة نتاج فكري لشخصية جدلية فكرية ما.

نمط الحكم المسبق: تتداول شرائح من الجماهير قصاصات فكرية وأفكاراً مقطوعة عن سياقاتها في الفضاء الاجتماعي العام أو الواقعي، وحين تفعل ذلك فهي تنتقي لنفسها ما يناسبها كي تثبت للآخرين أن من حقها إطلاق الأحكام على كافة النتاج الفكري لشخصية ما، ذلك النمط يحفز الناس على القص واللصق دون التمحيص والتحقق بالسياقات التي اقتطعت منها تلك الفقرات أو النصوص، فبذلك تستغل حالة الخوف الاجتماعي من الخوض في المحرمات الاجتماعية والدينية لمحاصرة نتاج فكري كامل لكاتب أو تيار ما.

النمط التبشيري: يستغل المبشرون بأفكار دينية أو اجتماعية أو سياسية معينة حوادث وفاة الشخصيات الفكرية الجدلية ممن لا يتوافقون مع طروحاتهم للتبشير السلبي بمعتقداتهم، بأدوات تشي بحالة من التشفي بحوادث الموت كأنها النهاية التي تنتظر مخالفيهم وتحمل في طياتها أيضاً تقرير مصير استباقي أخروي لمن يخالفهم فيتخذون بذلك أدواراً وصائية لا تقف عند حدود الموت.

استحضاري لهذه الأنماط التي استوقفتني كثيراً في أعقاب وفاة كل شخصية فكرية جدلية من أجل إثارة الأمور التالية:

أولاً: تيار السباب والشتائم والسوقية والعنف اللفظي والمعنوي والإرهاب الفكري في قراءة التجارب الفكرية الجدلية ليس سوى حالة من إفساد الذوق العام وتأزيم العقل العربي أكثر وأكثر عن طريق الاستعانة بأدوات قمعية فكرية بدائية، والاستعاضة بها عن النقد الفكري المحكم، وهو حين أسميه تياراً فلأنه يعكس حالة جارفة في إقصاء الآخر وإحباطه بالطرق العنفية اللفظية والمعنوية، وتداول هذا التيار على أنه أمر عادي للرد على كل من يخالفه بهذه الطرق يسهل على الأنظمة القمعية والعنفية والديكتاتورية والجماعات المتطرفة استغلال رواج هذه التيارات لتطبيع أنفسها بالذات إذا كان تيار الشتامين يصطف في الجهة المعارضة لتلك الأنظمة.

ثانياً: التصنيفات وإطلاق الأحكام والتكفير بشقيه التكفير الديني والاجتماعي أدوات قمعية ديكتاتورية لطالما وظفتها الكنيسة في قرون الظلام كذلك ووظفتها الممالك الدينية كي يسهل عليها النيل من أعدائها ممن قادوا مهمات التنوير في المجتمعات.

ثالثاً: محاولات النيل المعنوي والإحباط التام لكل من يخرج عن دائرة المألوف المتداول فكرياً واجتماعياً تعمق حالة الإحباط العام وتثبيط المجهودات الفكرية كافة التي قد تقود حركات التحرر من أنظمة القمع والعنف والديكتاتوريات، فالناس تحت ظل الديكتاتوريات مطالبون بالقراءة والتفكير قبل إطلاق الأحكام وقبل الحكم بشكل ناجز على الشخصيات الفكرية الجدلية بأي مكان بهذا العالم، كي يحرر الناس عقولهم عند تلقيهم الأفكار بدون أحكام مسبقة حينها سيحوزون على الأدوات النقدية لواقعهم  حين يفكروا لأنفسهم ولا يسمحوا لأحد أن يلبسهم قوالب فكرية جاهزة بأحكام مسبقة فيحرمهم نعمة التفكير.

رابعاً: عند طرح أي شخصية فكرية جدلية للجماهير على أنها بعبع العصر الذي يهدد استقرار المجتمعات في هذا الأمر استنزاف للأساليب البدائية حتى وإن راج الأمر وأصبح جزءاً من ظاهرة عامة، إلا أنه فيه ما فيه من إهانة لعقول الناس ومصادرة لها وحرمان لها من أن تبني مواقفها بعيداً عن التيارات التي تتسم بالغوغاء، فلا يمكن أن يبنى المرء موقفه من فكر يصفه بالهجومي الرخيص على ما يسميه معتقداته الراسخة بهجوم رخيص مماثل وبأدوات عنفية.

خامساً: التحيزات الفكرية والتحيزات الاجتماعية والدينية التي طبعتها المؤسسات التعليمية والدينية في ظل حكم الديكتاتوريات، أصبحت هي الحالة السائدة وأصبح التعاطي النقدي الفكري للنتاجات الفكرية أمر مستهجن ولا يتوافق مع الحالة الانتقائية والإقصائية العنفية التي فرضها نفوذ تلك المؤسسات التي سيطرت على الموارد الفكرية والإعلامية وساقت الجماهير بطريقة قطعانية كي يسهل سيطرة الديكتاتور على تغذيتها بالتحيزات وعدم التفكير بالوقائع بشكل نقدي حتى لا يتم نمو أي بذور فكرية حرة ضد الوقائع العنفية والقمعية.

إن الشعوب العربية هي الأكثر حاجة لقراءة كل الممكنات، ما يتفق معها وما يتخالف معها، لأن عملية تشكيل وعيها بالكامل من الأحداث ومساراتها السياسية والاجتماعية والدينية يعتمد بشكل كامل على مبادرتها الذاتية بتوسيع مداركها خارج رقابة الديكتاتوريات ومن يقدمون أنفسهم أوصياء على الفضائل، العقل الذي يخشى من القراءة بدعوى أنها في حقول معينة تفسد ذائقته وما ورثه عن الآباء والأجداد سيظل يسهل عليه تطبيع وقائع الاحتلال والظلم والقمع والديكتاتوريات لأنها أيضا جزء من الوقائع التي ورثوها عن الآباء والأجداد.