قبرص في مرآة الفرنكوفونية
في مشهد محمّل بالرمزية الدبلوماسية، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بنظيره القبرصي نيكوس خريستودوليديس على درج قصر الإليزيه، في لحظة جسّدت ببلاغة عمق التحالفات الناشئة شرق المتوسط، بعيداً عن الكلمات الرسمية كانت لغة الجسد بين الزعيمَين أبلغ من التصريحات، إذ عكست الوقفة المستقيمة، والمصافحة الثابتة، والمسافة الجسدية المدروسة، إصرار الطرفَين على بناء شراكة قائمة على الاحترام المُتبادل والاستقلالية السياسية.
حمل السلام الحار بين خريستودوليديس وماكرون إشارات رمزية تتجاوز البروتوكول التقليدي، يمكن قراءتها مؤشّراً حاسماً على أنّ قبرص باتت تحجز لنفسها موقعاً متقدّماً في حسابات باريس الإقليمية. ومن خلال هذا المشهد المُتكامل بين الحركة والكلمة، يتأكّد أنّ العلاقة بين فرنسا وقبرص تدخل مرحلة جديدة من التموقع الاستراتيجي، إذ تختلط الدينامية الأوروبية بمصالح الأمن الإقليمي في مشهد دولي آخذ في إعادة التشكُّل.
لم يكن التحالف الفرنسي القبرصي حديثاً، بل هو نتاج تراكم تاريخي يعود إلى العصور الصليبية، مروراً بالحقبة البريطانية التي حافظت خلالها فرنسا على حضورها الثقافي عبر المدارس الفرانكوفونية ودعم الطائفة المارونية. ومع استقلال قبرص عام 1960، عزّزت فرنسا وجودها الثقافي والديني من دون تدخّل مباشر، إلّا أنّ الاجتياح التركي عام 1974 دفعها لتعزيز دعمها السياسي للسيادة القبرصية. وفي التسعينيات، رأت باريس ضرورة انضمام قبرص للاتحاد الأوروبي لمواجهة النفوذ التركي المُتزايد، وهو ما تحقّق عام 2004، ليترسّخ بذلك تحالف استراتيجي عميق يجمع بين التاريخ والثقافة والسياسة في شرق المتوسط.
الفرانكوفونية القبرصية قد تكون استثماراً بعيد المدى يضمن لفرنسا موطئ قدم دائم في الوجدان القبرصي
ومع تطوّر التحالفات الإقليمية، يبرز سؤال جوهري حول طبيعة الاستدامة في العلاقات الفرنسية القبرصية: إذا كانت الموارد المادية مثل الغاز والطاقة قابلة للنضوب، وإذا كانت المسائل الأمنية قابلة للمعالجة عبر تحالفات عسكرية متغيّرة أو ترتيبات مؤقتة، فبأيّ وسيلة يمكن بناء تحالف يستمر ويتجذّر عبر الزمن، متجاوزاً رهانات اللحظة وتقلّبات المصالح؟
في هذا السياق، يبرز دور المعهد الفرنسي في قبرص بوصفه أحد الأعمدة الأساسية لترسيخ هذا البعد الثقافي الطويل الأمد، فالمعهد لا يعمل على تعليم اللغة الفرنسية ونشرها فحسب، بل يشكّل منصّة ديناميكية للتبادل الثقافي والفكري بين المجتمعَين القبرصي والفرنسي. عبر برامجه التعليمية، وفعالياته الثقافية المتنوّعة، من معارض فنيّة إلى ندوات فكرية وعروض سينمائية، يسهم المعهد في نسج شبكة خفية من الروابط الرمزية التي تتجاوز منطق المصالح الظرفية.
ويؤكّد أهمية هذا العمل الثقافي ما نُقل عن مسؤول فرنسي مقرّب من الأوساط الدبلوماسية في نيقوسيا، الذي أشار خلال حديث خاص إلى أنّ هناك أكثر من ألفي شاب وشابة في قبرص أبدوا رغبتهم في تعلّم اللغة الفرنسية، وهو رقم يُعدّ مؤشّراً معبّراً بالنظر إلى حجم الجزيرة الصغير وكونها بلداً غير فرانكوفوني بطبيعته، هذه المؤشّرات تكشف عن دينامية ثقافية واعدة، تبشّر بأنّ الرهان الفرنسي على الثقافة يحمل فرصاً حقيقية للترسّخ والتوسّع مستقبلاً.
القضيّة القبرصية لم تعد نزاعاً إقليمياً فحسب، بل باتت معياراً لاختبار التزام الاتحاد الأوروبي بمبادئ السيادة ووحدة الأراضي واحترام القانون الدولي
في عالم تتبدّل فيه التحالفات بتحوّل أسواق الطاقة وتقلّب الموازين العسكرية، تبدو لي الثقافة، واللغة على وجه الخصوص، أداتَين استراتيجيتَين لبناء تحالفات تتجاوز رهانات اللحظة. فاللغة لا تختفي بنضوب الموارد ولا تُفرض بتوازنات السلاح؛ بل تتغلغل في الوعي، وتُعيد تشكيل الانتماءات والهُويّات بطريقة تدريجية وناعمة. وكما يشير بيير بورديو "تمثل اللغة أداة من أدوات العنف الرمزي، إذ تفرض أنماط التفكير والقيم والمعايير الاجتماعية بطريقة خفية غير محسوسة، ما يجعلها إحدى أعمق آليات إعادة إنتاج السلطة في المجتمع".
عبر هذا المنظور، تبرز أهمية الاستثمار في تعليم اللغة الفرنسية للجيل القبرصي الجديد، لضمان أن يرى في فرنسا حليفاً طبيعياً ودائماً، وليس مجرّد شريك ظرفي أو لحظي. لتكون الفرنكوفونية القبرصية استثماراً بعيد المدى يضمن لفرنسا موطئ قدم دائم في الوجدان القبرصي. تجربة لبنان تقدّم مثالاً جلياً على قوّة هذا النموذج، فبعد نهاية الانتداب الفرنسي وانسحاب القوات الفرنسية، لم ينته الحضور الفرنسي، بل تكرّس في لغة الناس، ومناهج التعليم، والثقافة اليومية، حتى غدا جزءاً عضوياً من الهُويّة اللبنانية الحديثة.
أعتقد أنّ فرنسا اليوم تتجه نحو تأسيس رابطة ثقافية تستعصي على التآكل الزمني، بعد أن رسمت معالم نهج جديد في الشرق الأوسط يتميّز بالهدوء والبراغماتية، ويعتمد على القوّة الناعمة التي تتمتّع بقدرة على الاستدامة والتوسّع الشامل. ففي عالم قد تتغيّر فيه حدود التحالفات وأسواق الغاز، تبقى اللغة والثقافة قادرتَين على مدّ جسور خفية من التأثير، تبني شبكات من الفهم المتبادل والمصالح العميقة التي يصعب انتزاعها أو استبدالها.
وجدت فرنسا في دعم قبرص منصّة قانونية وأخلاقية لموازنة الطموحات التركية داخل الفضاء الأوروبي
مع ترسّخ الحضور الثقافي والسياسي الفرنسي في نيقوسيا، لم تعد باريس تكتفي بلعب دور الشريك، بل باتت تضطلع بوظيفة الضامن الأخلاقي لقضية قبرص داخل المنظومة الأوروبية، فالقضيّة القبرصية لم تعد نزاعاً إقليمياً فحسب، بل باتت معياراً لاختبار التزام الاتحاد الأوروبي بمبادئ السيادة ووحدة الأراضي واحترام القانون الدولي.
هذا التوجّه تعزّز في سياق إقليمي معقّد، إذ تعرف العلاقات الفرنسية التركية فتوراً متزايداً منذ سنوات، وقد تفاقم بفعل التوتّرات في شرق المتوسط، والانتقادات المتبادلة بين الرئيسين ماكرون وأردوغان. وقد وجدت فرنسا في دعم قبرص منصّة قانونية وأخلاقية لموازنة الطموحات التركية داخل الفضاء الأوروبي.
خلال القمّة الخماسية التي عُقدت في باريس في 28 مارس/ أذار 2025، شارك الرئيس نيكوس خريستودوليديس، وأكّد بوضوح أنّ أي تقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي يجب أن يُبنى على أفعال ملموسة تتعلّق بموقف أنقرة من القضية القبرصية، مشدّداً على أنّ احترام القانون الدولي قاعدة ثابتة وغير قابلة للتجزئة.
في هذا الإطار، يبدو لي أنّ فرنسا حريصة على ربط أيّ حوار أوروبي مع أنقرة بملف قبرص، بما يجعل التحالف مع نيقوسيا خياراً استراتيجياً لحماية أسس النظام الأوروبي في منطقة تموج بالاضطرابات.
في الختام، بينما تعيد القوى الكبرى رسم خرائط النفوذ في شرق المتوسط، تثبت الفرانكوفونية أنّها أكثر من مجرّد رابطة لغوية؛ إنّها أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الانتماءات والهُويّات عبر الزمن. في مرآة الفرنكوفونية، تظهر قبرص فضاءً حيوياً يُعيد تعريف نفسه من خلال التحالف مع فرنسا، استناداً إلى استثمار طويل الأمد في الثقافة واللغة. وبينما تتآكل التحالفات القائمة على المصالح الظرفية، تظلّ الروابط الثقافية، بخفّة حضورها وعمق تأثيرها، القادرة وحدها على بناء تحالفات تتجذّر وتتجدّد مع كلّ جيل، راسمة بذلك معالم سردية جديدة للمنطقة تتجاوز حدود السيادة التقليدية.