قافلة الصمود.. جبهة الوعي النابضة

12 يونيو 2025
+ الخط -

انطلقت يوم 9 يونيو/ حزيران 2025 "قافلة الصمود" لكسر الحصار عن قطاع غزة من العاصمة التونسية لتتجه براً نحو معبر رفح، مروراً بليبيا ومصر. وتضم القافلة أساساً، تونسيين وجزائريين وليبيين ووفوداً رمزية من المغرب وموريتانيا، لذلك يمكن اعتبارها قافلة مغاربية تنطلق نحو غزة لتعبّر عن الضمير الجمعي لشعوب المغرب العربي، ولتؤكّد أنّ القضية الفلسطينية عنوان مشترك وأرضية صلبة تتمسّك بها الشعوب لتتوحّد وتتجاوز خلافاتها الداخلية والبينية ضمن أفق مقاوم يعدّل البوصلة ويشير إلى حقّ بائن لا لُبس فيه. 

كثيراً ما انهمكت شعوبنا في واقعها الداخلي الصعب وأُغرقت في صراعات ثانوية أضاعت التناقض الرئيسي وأهملته، فوجدنا أنفسنا نبتعد أكثر عن القضايا التي كانت محرّكاً أساسياً في ذاكرتنا وعنوان وحدة وتوحيد لنضال طرقنا، حتى في علاقتنا بقضايانا المحلية المتعلّقة بأوطاننا. لأجل هذا، يمكن اعتبار "قافلة الصمود" حدثاً استثنائياً يضعنا أمام فرصة ثرية في العلاقة مع القضية الفلسطينية أولاً، وفي العلاقة مع أوطاننا ثانياً. 

احتجنا لعقود طويلة لنفهم أنّ وجود إسرائيل في منطقتنا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) لا يمكن أن يكون إلا خطراً جماعياً علينا وليس فقط على فلسطين، إذ إنّ هذه "الغدة السرطانية" المغروسة في جسدنا ما فتئت تفتك به وتُنهكه وتتعبه بالأمراض الطائفية والفتن المذهبية والخلافات المُفوّتة، لا لشيء إلا ليبقى في حالة مغالبة دائمة للمرض؛ يطلب حياة لا ينالها ويبقى مرعوباً من موت يطارده في كلّ لحظة. إنّ إسرائيل ككيان استعماري تكثّفت فيه حركة الاستعمار الأوروبي الغربي بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، تعبّر عن حالة ممتدّة من الفلسفة والعلوم السياسية إلى البوارج الحربية والطائرات المقاتلة. وبالتالي، فإنّ الدخول في مواجهة معها لا يكون على جبهة واحدة، ولا بطريقة تقليدية، فكما تُبدع المقاومة ميدانياً في المواجهة العسكرية بين غزة ولبنان واليمن، فإنّ جبهة الوعي لا بُدّ أن تُبدع بالشكل ذاته وأكثر. لسنا أمام عدو تقليدي بقدر ما نحن أمام تهديد وجودي لكلّ المظلومين في هذا العالم، إذا انتصرت إسرائيل سينهزم كلّ مظلوم وإذا هُزمت (وهو مصيرها) فهو انتصار لكلّ مظلوم.

لسنا أمام عدو تقليدي بقدر ما نحن أمام تهديد وجودي لكلّ المظلومين في هذا العالم

في هذا السياق تأتي "قافلة الصمود" حركةَ مقاومة على جبهة الوعي تفكّك الرهان الصهيوني على النسيان وعلى فكّ الرابط بين الأجيال الجديدة والقضية الفلسطينية. ولطالما كان الرهان على النسيان، وعلى أنّ أجيال النكبة والنكسة هي آخر الأجيال التي ستقف في مواجهة العدو، في حين أنّ حركة التاريخ تؤكّد في كلّ مرّة أنّ الانتقال الجيلي هو انتقال تجربة تُستخلص، ومكاسب تُراكم، وضعفا يُتدارك، وحماسا يتكُثّف ويتقوّى. فشل العدو مرّتين عندما راهن على النسيان الفلسطيني وعندما راهن على عزل فلسطين عن محيطها وامتدادها. إذ ترافق انطلاق قافلة الصمود مع وصول سفينة مادلين قبالة شواطئ غزة لكسر الحصار.

إنّ هذا الحراك المكثّف الذي يسير برّاً وبحراً وجواً من كلّ أنحاء العالم، متحدّياً الغطرسة والهمجية الاستعمارية الصهيونية التي تمارس كلّ أنواع الإجرام ليرتدع كلّ من يقاوم، إنما هو ضرب للصهيونية بما هي فكرة تتغذّى من خوف ضحاياها وتسعى دائما لأن تُرهبهم حتى يفقدوا القدرة على المبادرة والمقاومة. يفشل المشروع الصهيوني (وأي حركة استعمارية) عندما يفقد هيبته و"سلطة الردع الرمزية" التي يخدمها بتعميم القتل والمذابح. إذ لا قِبل له بحشود تأتيه من كلّ العالم لتقول له إنْه مجرم بالمعنى الإنساني، وبالقانون الدولي أيضاً، ولا تخاف قصفه بل تتحدّاه وتقاومه. لم تنشأ إسرائيل ليكون هذا مصيرها وهي في العقد الثامن من عمرها فلا تستطيع إقناع مواطنيها بأنها قادرة على الحماية ليعودوا إلى مستوطناتهم (هي الآن تدعوهم وهم يرفضون العودة)، ولا تقدر على إقناع أعدائها أنها "وحش كاسر" يدمّر كلّ من يقترب منه أو يواجهه.

قافلة الصمود هي تقويض للشروط الوجودية التي وضعها الآباء الأوائل لاستمرار إسرائيل

ختاماً، إنّ "قافلة الصمود" هي تقويض للشروط الوجودية التي وضعها الآباء الأوائل لاستمرار إسرائيل، وهي توحيد لكلّ القوى الحرّة في كلّ العالم حول قضية فلسطين بوصفها رمزاً للحقّ والعدل في مواجهة إسرائيل بوصفها عنوانا للظلم والقهر والبطش. ليس مهماً أن تصل "قافلة الصمود" إلى معبر رفح بل الأهم أنها استطاعت أن تنطلق على قلّة الإمكانات والموارد وأن تفعل هذا الفعل الفريد في التوحيد والتأليف بين كلّ قوى التحرّر. 

كَتبتُ قبل طوفان الأقصى أنّ فلسطين هي التي ستحرّرنا وأنا اليوم واثق أكثر من هذا القول كما لم أكن قبلُ، فلسطين ستحررنا وستكون المُرهم لأوجاعنا وآلامنا في أوطاننا وعنوان وحدتنا وأرضيتنا المشتركة للبناء. "قافلة الصمود" تسير نحو فلسطين الأرض وفلسطين الفكرة، ومن لم يصل إلى الأرض فقد حقّق المعنى ورسّخ الفكرة، وما أكبر الفكرة!

السنوسي
أحمد بن لطفي السنوسي
طالب هندسة و كاتب صحفي تونسي. صدر له العديد من المقالات في مواقع وصحف إلكترونية مختلفة. يعرّف نفسه بالقول: "إذا حكمت خيال الناس دنيا فإني يحكم الدنيا خيالي".