في ملكوت العقول الجميلة
عزيز أشيبان

يتّسع مفهوم الجمال ويحتضن عوالم متعدّدة ومتنوّعة، وينعم بكرم الحضور على العديد من الكائنات الحيّة والأشياء المادية واللامادية، إذ يجد تمثُّلَه وتجسيده الأنسب، وتظلّ العناصر اللامادية الوعاء الأكثر قوّة والأعمق وقعاً في احتضان روح الجمال ونسج تمثّله الأعمق من قبيل فضائل الأخلاق وروعة القيم وشموخ المبادئ الإنسانية.
من المؤكّد أننا نحتاج لحسنات الجمال للارتقاء بالذوق، وتهذيب الحواس، وتقوية كلّ ما هو روحي، وكبح طغيان الغرائز الحيوانية، والظفر بالإيجابية وتصريف طاقاتها نحو طريقة التعامل مع الغير وعملية بناء أنساق التفكير والرؤية المستقبلية.
في الواقع، جُبِلَ الإنسان على حبِّ الجمال والانجذاب نحوه، والتعبير عن الإعجاب به والتفاعل مع محتواه بالتعبير الشفهي أو الكتابي أو الإبداع الفني، غير أن مفهوم الجمال يخضع لعمق نظرة كلّ فرد، وتقديره للأشياء وخلفياته الثقافية والنفسية والذهنية ليظلّ بذلك مفهوماً متحرّكاً حسب تعدّد وتباين مقاربات التعريف والتحديد.
نحتاج الجمال للارتقاء بالذوق وتهذيب الحواس وتقوية كلّ ما هو روحي
نميل إلى القول إنّه في قمّة روعة أوعية الجمال يستقر وعاء الفكر، حيث رحم ولادة التصوّرات والأفكار والتأويلات والآراء والأفعال والسلوك وردّات الفعل والمبادرات، إذ كلّما احتضن الفكر القسط الأوفر من الجمال تحسّن الفعل البشري وأنتج كلّ ما هو محمود وخلّاق وبنّاء.
عند الحديث عن العقول الجميلة نشدّ الرحال إلى عقول لها من المميّزات والفضائل والملكات ما تفتقده بقية العقول، فتتلألأ بالجاذبية واللمعان والتميّز والإشراق مناراتٍ للتنوير والنقاء والصفاء، كما تستوطنها حركية دائمة من أجل التطهّر والارتقاء والسمو من خلال اشتغال عمليات المراجعة الذاتية والمساءلة والبحث عن أرقى أنواع التغذية والرواء والتخصيب والاستفزاز.
من دواخل العقول الجميلة ينبعث حسن الظن بالآخرين ويقصى الميل إلى محاكمة النيّات أو إصدار الأحكام، ويجري التخلّص المستمر من خبث الريب الممقوت، والسلبية الجارفة الهدامة، ويعلو نداء التنزّه عن نواقص الذات، وعدم الانجراف وراء نزعات النرجسية والأنانية والجشع والكسل والنفعية عبر الوعي المُسبق بوجودها والحرص الدائم على تدبيرها. هي حقاً عقول تخضع بامتياز إلى سلطة التسامح والمصالحة والسلام والصفح، بفضل ما تزخر به من رحابة سعة التفهّم وعمق استيعاب الأمور والاستعداد القبلي للمرونة وتسهيل سير الأمور.
كلّما احتضن الفكر القسط الأوفر من الجمال تحسّن الفعل البشري وأنتج كلّ ما هو محمود وخلّاق وبنّاء
في مملكة العقول الجميلة تترعرع الموضوعية والنضج وتحارب الذاتية والانغلاق على الذات، ويستصغر كلّ ما هو هدّام في رحلة بحث عن المعرفة، والارتقاء والغوص في ظلمات جهل الذات من أجل الخلاص. على نفس المنوال، تُقدّس النسبية ويُمحق المطلق وتسقط الأحكام المسبقة والشائع من الآراء من دون تدقيق أو تمحيص وتعلو سلطة التريّث والملاحظة وعدم الاندفاع.
نتحدّث عن عقول متعطّشة باستمرار إلى المعرفة والإيجابية وفضائل الأخلاق، تكابد من أجل بناء الحكمة واكتساب البصيرة، وتستأنس بالعقول المستنيرة من خلال نسج علاقات ودية معها، أو التماس نهل الحكمة من منتجاتها الفكرية وتمثلاتها الأخلاقية وعطاءاتها الإنسانية.
في رحاب العقول الجميلة يجد الحديث معناه ومغزاه وشخصيته، يستلذ به الحضور ويستأنسون بتفاصيله، ويَستفزُّ عبقَ الحكمة والأدب وعذوبة الكلام وملكة الإصغاء، فهل يقترن العقل الجميل بحضور الروح الجميلة وهل هناك علاقة سببية بينهما؟ أم أنّ كلّ واحد منهما يستأثر بعالمه الخاص المستقل؟

