في مجالس شيخي الحكيم

26 مارس 2025
+ الخط -

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته. هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أن تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.

***

زرتُ شيخي في ليالي الشهر الفضيل، وأنا أقول في حسرةٍ: هل سمعتَ الأخبار يا شيخي، لقد نقض الصهاينة اتفاق وقف إطلاق النار المزّمن؟

أجابني: نعم سمعتها؛ 

فأخبارُ الشرورِ لها انتشارٌ / وأخبارُ السرورِ لها انحسارُ

لا جديد في الأمر!

قلت: كيف لا جديد؟ هل توقعتَ أنهم لن يوفوا بالاتفاق المضروب بينهم وبين المقاومة؟

قال: كنتُ أتوقّع ذلك، لكن ليس مهماً توقعي أنا، المهم هل أخذت المقاومة هذا الأمر بالحسبان واستعدّت له؟ هذا ما أرجوه.

قلتُ: لا أظنّها غافلة عن ذلك، فهم يعرفون عدوّهم جيّداً.  لقد أعادونا إلى المربّع الأول، وكأننا عدنا إلى يوم 8 أكتوبر 2023م، لتعود المجازر من جديد.

قال: هكذا طبيعة الحرب، عذاب لا ينتهي.

في الحروب لا فرصة كي تفكّر بغير الحرب نفسها

قلتُ: بيد أنّ الناس في غزّة لم يستردوا أنفاسهم بعد، بل لم تدخل إليهم المساعدات الموعودة بحسب الاتفاق المنقوض، حتى إنهم لم يستخرجوا شهداءهم الذين قضوا تحت أنقاض البيوت المهدمة! 

قال: في الحروب لا فرصة كي تفكّر بغير الحرب نفسها؛ حيث تفكّر كيف تهزم خصمك، وفي الوقت نفسه، كيف تنقذ نفسك من الهلاك.

قلتُ: غير أنّ هذه الحرب أو المعركة ليست متكافئة، كما تعلم، على الرغم من أنّ فصائل المقاومة الفلسطينية قد أبلت فيها بلاءً حسناً.

قال: الشعب الفلسطيني واقفٌ أمام المدخنة وحده؛ ظهره إلى الجدار، ولم يعد قطاع غزّة هو المستهدَف الوحيد، كما يتشدّق المتخاذلون الذين يحملّون فصائل المقاومة وزر هذه الحرب، فها هي الضفة الغربية على خطّ المواجهة منذ أشهر، و...

قلتُ مقاطعاً: والأمتان العربية والإسلامية تتفرجان على ما يجري، وكأنهما تشاهدان مباريات كرة القدم، وليس شعباً يُباد أمام الكاميرات.

قال: الأمة غارقة في ملهياتها، وتفرُّ من الاعتراف بذلك إلى تعليق عذرها على شماعة حكّامها الصامتين، الذين لا يخرجون من دائرة الملامة هم أيضاً. وهذا هو حال الأمّة، أي أمّة كانت، عند هوانها.

الأمة غارقة في ملهياتها، وتفرُّ من الاعتراف بذلك إلى تعليق عذرها على شماعة حكّامها الصامتين

قلتُ: شيخي، هل الحل أن نظلّ نجترُّ ونتباكى على هواننا؟   

قال: ليس حلاً بالطبع، ولا حتى الدعاء لغزّة بالنصر، الذي يقوم به أئمة مساجدنا في صلواتهم هذه الأيام!

قلتُ مندهشاً: ولا حتى الدعاء؟

قال: لستُ ضدّ الدعاء نفسه، لكن المسلم الذي يدعو في المسجد يظن أنه بذلك قد قام بواجبه تجاه إخوانه في أرض الرباط وانتهى الأمر.

قلتُ: هو يدعو لأنه لا حيلة له إلّا الدعاء وحده.

قال: هنا مربط الفرس؛ يجب أن يفهم الناس أنّ الدعاء لا يكون إلّا بعد الأخذ بالأسباب، وليس هو السبب الوحيد، ولنا في سيرة نبينا الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، خير نهج في كيفية الدعاء.

قلتُ: أعرف، غير أنّ النبي الكريم كان صاحب القرار في الأخذ بالأسباب، في حين المسلم اليوم لا حول له ولا قوة، مكبّل بكلّ قيد مما تعلّمه في بلادنا العربية، فلم يعد له إلّا الدعاء.

قال: ربما قد تكون محقاً في هذا الظرف الاستثنائي الذي نعيشه هذا العصر.

قلتُ: ألا يوجد سبيل للخروج مما نحن فيه؟

قال: هناك سُبُل كثيرة لو الناس تريد ذلك، لأنّ أيّ حل سيكون معقوداً على همم الناس في هذه الأمة، إذ يجب أن يستشعروا بعبء التخلّف الذي وسُموا به في كلّ أصعدة الحياة، وكبّلهم عن الذود عن حماهم، كما يجري اليوم على أرض الرباط.

لا يصح أن ننصح الناس بالتغيير، ونحن أنفسنا لم نتغير

قلتُ: ولكن هذا حلّ طويل الأجل، هذا باعتبار أنهم استشعروا وتحرّكوا من أجل هذه الغاية، إلى جانب، هل يستطيعون فعل ذلك، وهم عالة على خصومهم في مقوّمات حياتهم؟

قال: أتفق أنه حلّ طويل الأجل، كما نظنّه، وأمامه عقبات كثيرة، ربما أكثر مما ذكرتَه.

إلا أني لا أجد حلاً آخرَ ناجعاً، فما عدا ذلك سيكون مجرّد مسكنات لحظية، تماماً كما تفعل القمم العربية عند كلّ كارثة!

هممتُ أن أقول شيئاً، لكن شيخي وضع يده على كتفي وقال: يا بُني، إنّ مشكلتنا تكوّنت وتضخّمت خلال عقود زمنية طويلة، لذا يحتاج حلها زمناً لا أقول مشابهاً زمن تكوّنها، لكنه سيكون أكثر من مجرد شهور أو سنوات قلائل. المهم أن تكون نيّتنا معقودة لكي نغيّر حالنا إلى أحسن حال، ونبذل ما بين أيدينا من أسباب لذلك، ونبدأ بأول خطوّة، وهي تغيير أنفسنا نحن، فلا يصح أن ننصح الناس بالتغيير، ونحن أنفسنا لم نتغيّر! لقد قال الزعيم الهندي غاندي: "عليك أن تكون أنت التغيير الذي تريده للعالَم".

قلتُ: دعوات التغيير كثيرة، وهل كانت أحداث ما سُمّي بالربيع العربي إلّا محاولة للتغيير؟!

قال: أتفق معك، كانت محاولة ولم يُكتب لها النجاح، على تفاوت من دولة إلى أخرى، ولذلك أسباب كثيرة ليس هنا مجال الحديث عنها، بيد أنّ هذا لا يعني خطأ دعوة التغيير في ذاتها، فالتغيير سنة الحياة.

قلتُ: قد يقولُ قائل: الناس اليوم تريد حلاً لما يجري في أرض الرباط، ولنترك الحلول طويلة الأجل إلى بعد إنهاء المأساة، فكيف ترى يا شيخي؟

قال: هذا طبيعي أن يفكّروا كذلك، بل كلنا نفكر بالطريقة نفسها، إلّا أنّ الحل الآن بيد السياسيين اللاعبين بملف القضية، ولا أظنّ الساسة العرب سيفعلون شيئاً، ولقد رأينا ما فعلته قممهم الثلاث التي عقدوها خلال زمن الحرب، وكذلك موقف الضامنين العرب لاتفاق وقف إطلاق النار الذي نقضته إسرائيل.

لستُ سياسياً كي أطرح حلولاً، إلّا أني أرى أن المأساة الجارية هناك ربما تدفع الناس للبحث عن حل للمشكلة الكبرى التي أنتجت كلّ مآسينا المعاصرة، والله أعلم.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري