في "فلسفة وأخلاق" الكتابة عن سورية

12 مارس 2025
+ الخط -

بعد سقوط/ إسقاط النظام الأسدي، أصبحت السياسة حاضرة في الحياة والأحاديث اليومية لدى معظم أفراد الشعب السوري. وتتسارع الأحداث في سورية بطريقةٍ تجعل الكثير من الأحكام والتوصيفات والتقييمات المعرفية تتقادم بُعيد صدورها. ويبدو الواقع السوري سيَّالًا وكثيفًا ومعقدًا، بحيث يصعب الإمساك به معرفيًّا. صحيح أنّ المعرفة منظورية بالضرورة، لكن يمكن للمنظور الواحد أن يستوعب منظورات أخرى تجعله بعيدًا عن فقر الأحادية وسذاجة الدوغمائية. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الكتابة عن سورية في الوضع الراهن مقامرة محكومة بالفشل على الأرجح. لكن ما معيار نجاح الكتابة وفشلها، عمومًا وفي مثل هذا السياق خصوصًا؟

يمكن لكلّ خطابٍ، شفهيًّا كان أو مكتوبًا، أن ينوس بين قطبين، أو يتموقع في أحدهما: التعبير والتوصيل أو التواصل. ففي الحالة الأولى، يكون تركيز الكاتب أو المتحدّث على أن يعبّر عمّا يريد التعبير عنه من أفكار ومشاعر وقيم... من دون أن يقترن ذلك برغبةٍ خاصةٍ في توصيل هذه الأفكار إلى أيّ طرفٍ آخر أو التواصل معه من خلالها. وهذه الرغبة الخاصة هي التي تكون المحرّك الرئيس للحالة الثانية التي يهدف المتحدّث أو الكاتب فيها إلى إيصال رسالة ما وإقامة تواصل وتفاعل مع طرفٍ ما أو أكثر. يمكن للتمييز بين الحالتين المذكورتين أن يعطي الانطباع بأنّ الخطاب ليس اجتماعيًّا أو بينذاتيًّا ولا ملزمًا بالتقيّد بأصول التخاطب إلا في الحالة الأولى؛ لأن صاحب الخطاب يريد أن يعبِّر عمّا يجول في نفسه وخاطره، من دون أن يفكر (كثيرًا) في من قد يتلقى ذلك الخطاب وفي تأثير ذلك فيه أو فهمه له. ومع ذلك، يمكن التشديد على الطابع الاجتماعي لكلّ خطاب، انطلاقًا من الطابع الاجتماعي البينذاتي للغة ولاستخدامها. ويمكن هنا التذكير برد غادامر على دريدا الذي كان ينتقد (إرادة) الفهم، حيث تساءل غادامر: ألا يريد دريدا وصاحب كلّ خطاب أن يُفهم؟ ولولا أنّه يريد ذلك، فلماذا يتحدّث أصلًا؟

انطلاقًا من اجتماعية الخطاب أو بينذاتيته، يمكن القول إنّ كلّ خطاب ينبغي أن يأخذ في حسبانه فهم الآخرين لخطابه وتفاعلهم معه وتأثرهم به. إضافةً إلى ذلك، القول فعل، و"عندما تقول أنت تفعل"، كما يقول عنوان الترجمة الفرنسية لأشهر كتب الفيلسوف الإنجليزي جون أوستن. وهذا يعني أنه ينبغي لصاحب القول أو الخطاب أن يتقيّد بأخلاق الفعل والتواصل والاتصال الاجتماعي. قد يُعترض على ذلك باستعادة التمييز الشهير لماكس فيبر، بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية، والتشديد على أنّ الشخص قد يتبنى، في أقواله وأفعاله، أخلاق الاقتناع، فيكون حريصًا على التمسّك بقناعاته والالتزام بمبادئه، من دون الاكتراث بنتائج تلك الأقوال أو الأفعال وتأثراتها في الآخرين. لكن أخلاق الاقتناع فاشلة، كما بيَّن فيبر، إذا لم تندمج مع "أخلاق المسؤولية"، أي مع حدٍّ أدنى من الأخذ في الحسبان لنتائج القول/ الفعل.

الواقع السوري سيَّالًا وكثيفًا ومعقدًا، بحيث يصعب الإمساك به معرفيًّا

انطلاقًا من ذلك، يمكن أن نفهم المطالبات بوقف الأقوال التي تحرّض على الفتنة وتتضمّن تجييشًا طائفيًّا أو دينيًّا أو إثنيًّا، إلخ. وبات من الضروري ضبط الناس لأقوالهم في هذا الخصوص، لأنّ التحريض على الجريمة جريمة، وقد حصلت وتحصل جرائم كثيرة في هذا الخصوص. وقد أدرك بعض الأشخاص المحرّضين متأخرين أنّ القوانين الأوروبية تعاقب على مثل هذه الأفعال، فبدأ بعضهم بالتراجع عن فعلته بعد إدراك إمكانية تعرّضه للعقوبة التي قد تصل إلى السجن أو حتى الترحيل.

وثمّة شعورٌ عامٌّ بصعوبة التفاعل الموضوعي معرفيًّا والمنصف أخلاقيًّا والمفيد سياسيًّا مع الأحداث التي تحصل في سورية ومع ردود الفعل عليها. فإضافة إلى تعقيد المسائل عمومًا ثمّة استقطابٌ كبيرٌ وقويٌّ بين أطرافٍ تسعى لتبسيط المسائل وتحويلها إلى صراعاتٍ مانويةٍ أخلاقيةٍ بين الخير المطلق والشر المطلق، بين طرفٍ ليس فيه إلا الضحايا، وطرفٍ آخر ليس فيه إلا المجرمون، مع أن الوضع عمومًا أكثر تعقيدًا بكثيرٍ. فسورية بحاجةٍ أولًا، وقبل كلّ شيء، إلى أن تكون شرًا لا بُدّ منه، أي أن تكون دولةً. فوفقًا لكلّ تعريفات الدولة ومعايير وجودها، ليس هناك دولة في سورية، لا من حيث السيادة ووحدة الأرض، ولا من حيث المؤسسات الأساسية، كالجيش والشرطة، والمؤسسات الخدمية والتربوية والتعليمية والإعلامية، إلخ. وما يوجد في هذا الإطار هو بقايا أو إرهاصات دولة. وفي ظلّ هذا الغياب، ثمّة حاجة ماسة لوجود أيّ قوة تضبط الأمن وتحظى بقبولٍ ما من الشعب المنهك. وانقسام سوريين كثر بين طرفين أحدهما معادٍ بالمطلق للسلطة القائمة، والآخر مستعد للتشبيح تطوّعًا ومجانًا لتلك السلطة، لا يفسح مجالًا (كبيرًا) لنقاشِ معرفيٍّ متوازنٍ. وفي ظلّ عدم وجود (مؤسسات) دولة في سورية، وجودًا كاملًا وقويًّا وفاعلًا، ثمّة خروقات أمنية كثيرة وكبيرة وخطيرة. وليس واضحًا دائمًا إلى أيّ حد تتحمّل السلطة/ الدولة الغائبة المُغيّبة وأجهزتها ومؤسساتها العسكرية والأمنية القديمة المتهالكة أو الجديدة الوليدة مسؤولية تلك الخروقات التي اتخذت صيغة المجازر في الأيام الأخيرة، ولا الشكل الأنسب للتفاعل مع تلك السلطة/ الدولة. فلا معقولية لمحاولة إزاحة القائمين على السلطة/ الدولة من مواقعهم حاليًّا، لأنه ليس ثمّة بديل (مناسبٍ) على الإطلاق. في المقابل، يمكن للتسليم بوجود تلك السلطة، بوصفها قدرًا، أن يفضي إلى حرمان مستقبليٍّ (دائمٍ) لمعظم السوريات والسوريين من حقّ تقرير مصيرهم ومصير بلدهم ومجتمعهم.

سورية بحاجةٍ أولا، وقبل كلّ شيء، إلى أن تكون شرًا لا بد منه، أي أن تكون دولةً

بدلًا من التحلّي بمسؤولية الكلمة وضبط الأحكام والأقوال لتكون موضوعية معرفيًّا ومنصفة أخلاقيًّا ومفيدة سياسيًّا، يستسهل طرفا الاستقطاب المذكور اتخاذ مواقف أحاديةٍ تُشيطن شيطنةً مطلقةً أو تملئك ملأكةً مطلقةً السلطات القائمة في دمشق أو في السويداء أو في الجزيرة السورية أو في درعا، مع أنّ قيم الحقيقة والخير والنافع تتموضع بين هذين القطبين وليس في أحدهما. وربما كان أكبر اختبارٍ للمثقف أن يخضع لاختبار الحديث عن الأوضاع السورية الراهنة وأسبابها البنيوية والتاريخية من جهةٍ، وآفاقها المستقبلية، القريبة والبعيدة، من جهةٍ أخرى. فمن السهل جدًّا الانزلاق إلى أحكامٍ أيديولوجيةٍ دوغمائيةٍ نابعة من توجهاتٍ نفسانيةٍ وأيديولوجيةٍ أكثر من كونها مسوّغةٍ بحججٍ معرفيةٍ متماسكةٍ. والمشكلة الأكبر في هذا الخصوص، ليس انجراف كثيرات وكثيرين إلى مثل هذه الرؤية الأحادية الاختزالية التبسيطية فحسب، بل رفض المنجرفات والمنجرفين المذكورين لأيّ اختلاف مع التوصيفات المعرفية التي يقدمونها والتقييمات الأخلاقية والمواقف السياسية/ الأيديولوجية التي يتبنونها. فعلى الأرجح، يفسد الاختلاف، في هذا السياق، للودّ كلّ قضيةٍ، ويجعل المختلف محكومًا عليه بأقسى أحكام الإعدام والسجن المؤبد المعنوي.

ثمّة معقولية في استرجاع الحديث السقراطي/ الأفلاطوني عن وجود تطابقٍ بين الحقيقة المعرفية والخير الأخلاقي. ويمكن لكلمة "الحق" باللغة العربية أن تعبّر عن هذا التطابق، لأنّها تتضمن بعدين متداخلين أو متماهيين: بعد الحقيقة المعرفي وبعد الخير الأخلاقي. وانطلاقًا من ذلك، يبدو ضروريًّا، في سياق تناول الوضع السوري الراهن، الابتعاد عن الشطط في الأحكام المعرفية، والتأني كثيرًا في إطلاقها، ومحاولة ضبط تلك الاحكام ضبطًا نزيهًا لا يتلوَّن وفقًا لرغباتنا وتوجّهاتنا الأيديولوجية أو المعيارية، بل إن تلك الرغبات والتوجّهات هي التي ينبغي أن تتغيّر وتنضبط بضوابط الحق المعرفي الأخلاقي.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".