في فلسفة السلم الأهلي والاعتذار والمرحلة الانتقالية
إذا كان دخول الاستعمار الأوروبي إلى بلدان ومناطق العالم العربي قد أفضى إلى بداية فاعلية شعوب تلك البلدان في المجال السياسي، فإنّ هيمنة السلطات الاستبدادية في تلك البلدان أفضت، تدريجيًّا، إلى إقصاء تلك الشعوب عن المجال السياسي وتصحّر المجتمع سياسيًّا. وفي سورية، بدأ هذا التصحّر منذ عام 1958، وبلغ ذروته في ثمانينيات القرن الماضي. وقد شكلت ثورات الربيع العربي عودة الشعوب الثائرة إلى المجال السياسي، بوصفها طرفًا فاعلًا فيه. وبعد سقوط/ إسقاط النظام الأسدي تسيَّس عددٌ كبيرٌ من أفراد الشعب السوري وأصبح الحديث في الشأن السياسي حاضرًا لدى أغلبهم. ويمكن المحاججة بأنّ نسبة انخراط السوريات والسوريين في الشأن السياسي حاليًّا تضاهي النسبة الموجودة في كلّ الدول الديمقراطية. وفي إطار تناول مواضيع تتعلّق بـ"الفلسفة والناس"، أصبح ممكنًا، وربما ضروريًّا المقاربة الفلسفية المنطقية النقدية للنقاشات السياسية السائدة بين الناس (في سورية). وسأعرض، في هذه التدوينة، وجهتي نظر، على الأقل، هي الأكثر شيوعًا وقطبيةً، في خصوص مسائل السلم الأهلي والاعتذار، من جهةٍ، ومتطلّبات المرحلة الانتقالية، من جهةٍ أخرى.
في السلم الأهلي والاعتذار: عفو عام ليعمّ السلام
ثمّة من يطالب ويرى وجوب أن تصدر السلطات الحاكمة عفوًا عامًّا، لكي يشعر الجميع بالأمان، ويكون بالإمكان فتح صفحةٍ جديدةٍ. لكن، عفوٌ عن من، وعن ماذا، بالضبط؟ ألا يتطلّب الحديث عن العفو والمطالبة به تحديد الجرائم التي يشملها؟ فلا معنى للمطالبة بالعفو والغفران إن لم تترافق مع الإقرار الواضح بوجود جريمة تستحق العقاب ويمكن العفو عمن مارسها. ثم ألا يتطلّب العفو إقراراً بارتكاب هذه الجرائم والاعتذار؟ فلا معنى للاعتذار ما لم يترافق مع الإقرار بالخطأ أو الاعتراف بالجريمة أو الخطيئة. وماذا عن الضحايا وأهاليهم؟ ألا ينبغي تعويضهم وتحقيق العدالة معهم، وإنزال العقوبة بالأفراد والأطراف التي أجرمت بحقّهم؟ فلا معنى (إيجابيًّا) للتسامح إن أفضى إلى التفريط بحقوقٍ فرديةٍ لم يتنازل أصحابها عنها، ولم يعترف منتهكوها بانتهاكاتهم.
المطالبون بالعفو العام يرون في مثل هذه الأسئلة وما تتضمّنه من أفكار ومواقف، تهديدًا للسلم الأهلي ولإمكانية تحقيق الانتقال الديمقراطي في سورية، ويجزمون بأنّ هذه الأفكار والمواقف ستُفضي، في حال تبنيها وتطبيقها، إلى نشوب حربٍ أهليةٍ وفتح صفحةٍ جديدةٍ لجرائم جديدةٍ وضحايا جدد، على الأرجح، بدل أن تساعد على تحقيق الأمن والأمان وطيّ صفحة الماضي، بمآسيها وجرائمها وضحاياها. وهذا هو المسوّغ الرئيس الذي يقدمونه لتأييدهم إصدار العفو العام المطلوب، سعيًا لتجنّب حصول ما يرون أنه ليس في مصلحة أحد.
لا معنى للمطالبة بالعفو والغفران إن لم تترافق مع الإقرار الواضح بوجود جريمة تستحق العقاب ويمكن العفو عمن مارسها
تبدو بعض المطالبات بالعفو أشبه بالتهديدات، التي يمكن التعبير عنها بالصياغة التالية: أصدروا العفو، أو لا تلوموا إلا أنفسكم، وعلى نفسها ستجني براقش مجدَّدًا. لكن، ألا يمكن المحاجة أن لا معنى لممارسة العفو والغفران إن لم يكن هناك قدرة على إنزال العقوبة بمن ارتكب الخطأ أو الخطيئة أو الجريمة؟
في المقابل، ثمّة إصرار لدى المطالبين المذكورين على وضع السلم الأهلي والعدالة في حالة تناقض وتنافرٍ، بحيث يقتضي تحقيق أحد الطرفين التخلّي عن الطرف الآخر بالضرورة. لكن، هناك معنى (إيجابي) للسلم (الأهلي) إن لم يتأسّس على العدالة ويؤسّس لها.
في الرد على مثل هذه الأسئلة يستسهل كثيرون إطلاق الاعتذارات عما فعلوه وعما لم يفعلوه أيضًا. لكن ليس نادرًا أن يشدّدوا على أننا لو أدركنا بحقّ ماهية أو طبيعة الأوضاع التي كانوا يعيشون فيها لما طالبناهم بالاعتذار أصلًا. وعلى هذا الأساس، يصبحون هم أنفسهم ضحايا، ولا يبدو أنه كان بإمكانهم أفضل مما كان.
تبدو بعض المطالبات بالعفو أشبه بالتهديدات، التي يمكن التعبير عنها بالصياغة التالية: أصدروا العفو، أو لا تلوموا إلا أنفسكم، وعلى نفسها ستجني براقش مجدَّدًا
ويبدو الاعتذار في السياق السوري الراهن فاقدًا لمعناه، غالبًا. اعتذار كثيرين، فارغ المضمون، ويفتقد أبسط متطلبات الاعتذار: الاعتراف بالخطأ، وعدم محاولة تبريره وتبرئة الذات. وثمّة استسهالٌ لتقديم الاعتراف، من جهةٍ، واستصعاب للقيام بذلك، من جهةٍ أخرى. وقد يستسهل تقديم الاعتذارات من يظنون أنهم لم يقترفوا فعلًا ما يستحق أن يعتذروا عنه. وليس نادرًا أن يكون الغرض من الاعتذار عند هؤلاء تلقي المدح والتقدير وليس اللوم والانتقاد. أما من يستصعب تقديم الاعتذار، فهم إما من يصرون على أنهم ضحايا ولم يخطئوا رغم كلّ القرائن والأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، وإما من يدركون أنهم أخطأوا وأجرموا، لكنهم يكابرون ويستصعبون تقديم الاعتذار للكبر في نفوسهم أو لهول أو فظاعة جرائمهم.
في متطلبات المرحلة الانتقالية: بين أسفل السافلين وأعلى العليين
هناك من يرى وجوب رفض سلطة الجولاني والثورة عليه وعلى هيئته ومنعه من (الاستمرار في) تسلّم السلطة بعد إسقاطه للأسد، لأنّه، من وجهة نظره، إرهابيٌّ متطرّفٌّ ومجرمٌ ويقود هيئةً إرهابيةً تتسم بالسمات نفسها، وينبغي لنا مقاومتها، لا مجرّد معارضتها، والسعي لإبعادها عن السلطة، مهما كان الثمن، وبكلّ الطرق الممكنة.
فلنفترض أننا نجحنا في إبعاد أحمد الشرع، وقوات إدارة العمليات العسكرية، كلّها، كيف سيكون حال البلد. لا تنسَ أن أحمد الشرع ومن معه تسلموا السلطة بعد أن سقط الأسد وترك البلد في أسوأ حالٍ ممكنٍ: تفتّت الدولة إلى مناطق نفوذ مختلفة، وانهيار كاملٍ للمؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية، وتعرّض الكثير من مؤسسات الدولة لقصفٍ إسرائيليٍّ أو أعمال نهبٍ أو إحراقٍ، وسوء فظيع في الأوضاع الخدمية والاقتصادية: لا كهرباء، ولا وقود ولا ماء وارتفاع هائل في الأسعار ووقوع معظم أفراد الشعب السوري تحت خط الفقر، فعلى سبيل المثال، الرواتب الحكومية لم تكن تكفي لإعالة أسرةً لأكثر من يومين أو ثلاثة أيامٍ، إلخ. فمن هي القوة القادرة على ضبط الأمن وتوفير الخبز والوقود والكهرباء ومتطلّبات الحياة (الكريمة)؟
الرافضون الجذريون للسلطة القائمة يرون أنّ كل هذا لا قيمة له، لأنّ الجولاني يقود سورية إلى تبني نظامٍ شموليٍّ مليشياتيٍّ إسلامويٍّ متطرّفٍ. والجولاني يتخذ قراراتٍ، وكأنه سيبقى في منصبه أبدًا، ولا يعمل وكأنه سيترك منصبه غدًا. فإضافةً إلى فترة الثلاث أو الأربع سنوات التي أعطاها لنفسه ولجماعته في السلطة، هو يفرض سلطته ويعيّن جماعته في كلّ المناصب الحسّاسة في الدولة، في الجيش والقوى الأمنية والمؤسسات التربوية والقانونية والإعلامية، إلخ، وتتدخل حكومته في المناهج الدراسية، وفي الفصل بين الرجال والنساء في بعض الأماكن العامة، فضلًا عن تعيين خريج شريعة، وليس خريج قانون، في منصب رئيس محكمة النقض، وهي أعلى هيئة قضائية في سورية، وفرض الخضوع لدورة شرعية كأحد شروط الانتساب إلى الجيش السوري، إلخ. ببساطة، يرون أنّ السلطة الحالية تؤسلم الدولة، وتهيمن عليها، وتهبط بها إلى أسفل السافلين، بطريقةٍ مدمّرةٍ يصعب إصلاحها، أو التراجع عنها، لاحقًا.
يبدو أن الشرع أو الجولاني يقوم بدورٍ بالغ الإيجابية، من ناحيةٍ، وبدورٍ بالغ السلبية، من ناحيةٍ أخرى. ويصعب الفصل بين الدورين، رغم ضرورة هذا الفصل
في المقابل، يرى آخرون أن لا قيمة لمثل هذه المواقف والأفكار، لكونها لا ترى مشكلة في حصول فراغ كامل في السلطة مع غياب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقانونية/ القضائية والإعلامية، إلخ، مع أنّ هذا الفراغ وذلك الغياب يمثلان الوصفة الأمثل لحالة التوحش التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمعٍ في هذه الحالة، ولا سيما في مجتمعٍ مستنزفٍ في حربٍ وقمعٍ وضنكٍ وتوتراتٍ من كلّ نوعٍ ممكنٍ (مناطقيةٍ، إثنيةٍ، دينيةٍ، طائفيةٍ، إلخ) منذ عقودٍ أو سنواتٍ طويلةٍ. على هذا الأساس، يجري التشديد على ضرورة وجود الشرع وجماعته في السلطة حاليًّا، وعلى عدم كون هذا الوجود شرًّا مطلقًا؛ فحتى إذا كان شرًّا، فهو شرٌّ خيِّرٌ أو أقل الشرور الممكنة، ومن ثم هو "شرٌّ لا بد منه". وانطلاقًا من ذلك، ينبغي العمل على معارضته سياسيًّا، لا إعلان الحرب عليه، ورفضه رفضًا مطلقًا.
وفي كل الأحوال، يبدو أنّ الشرع أو الجولاني يقوم بدورٍ بالغ الإيجابية، من ناحيةٍ، وبدورٍ بالغ السلبية، من ناحيةٍ أخرى. ويصعب الفصل بين الدورين، رغم ضرورة هذا الفصل. ولا يبدو خيار (إجباره على) التخلّي عن السلطة معقولًا أو مرغوبًا، في المستقبل المنظور؛ كذلك لا يبدو أن من المعقول أو المفيد تركه يعمل ما يشاء، من حيث احتمال أن يفضي ذلك إلى فرض أيديولوجيته الإسلاموية على الدولة والمجتمع. وما بين هذين القطبين، تنوس خيارات السوريات والسوريين، وتتأرجح، وفقًا لتصرّفات الشرع وصحابته، وتفاعلهم مع الأصوات والضغوط الداخلية والخارجية، في الوقت نفسه.