في ضيافة الفرزدق (5)

في ضيافة الفرزدق (5)

16 اغسطس 2021
+ الخط -

تنامى إلى سمع عمر بن العزيز أن الفرزدق متحرش، وأراد أن يستوثق من ذلك وألا يأخذه بالتهمة دون دليل، وعمر يومها أمير المدينة المنورة وعاملها للخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وتأكد الوالي بأم عينيه من تحرش صاحبنا، وطرده ونفاه من المدينة بلهجة حازمة جاء فيها أن "اخرج من المدينة، لئن أخذتُك فيها -ما دام لي سلطانٌ- لأعاقبنّك".

وخرج من المدينة خائفًا يترقب ولا يدري إلى أين وجهته، فلما استوى على راحلته تذكر قول جرير يهجوه (وكنتَ إذا نزلتَ بدارِ قومٍ/ رحلتَ بخزيةٍ وتركتَ عارا)؛ فقال حينها "قاتل الله ابن المراغة! لكأنَّه كان ينظر إليَّ". وبضدها تتمايز الأشياء، إذ أقبل جرير وأنزله عمر مكان صاحبه وامتحنه بالجارية نفسها، ولمَّا تيقّن من سلامة موقفع، قال: "عجبت لقومٍ يُفضلون الفرزدق على جرير مع عفة جرير وفجور الفرزدق وقلة ورعه وخوفه من الله عزَّ وجل".

واستقبلني أبو فراس بوجه ملؤه الغضب، ما زال موقف السينما يحزّ في نفسه، لكنه -ولا نكتمه حقه- ألمعي حاد القريحة، تناسى الموقف عامدًا متعمِّدًا وتكلَّف الابتسام وهو يقول: في أقل من أسبوع أعادت طالبان عجلة الزمن للوراء عشرين سنة، وكأنك يا بوش ما غزيت! جاء أبناء العم سام بقضهم وقضيضهم، وتولوا مهمة تدريب وإعادة تأهيل الحكومة الأفغانية، ومن اتكل على زاد غيره طال جوعه وأنتخ وترهّل، بمجرد أن خرج الأميركان لحقهم عبد الرشيد دوستم ولم يفرح بالترقية المارشالية، وهرب أشرف غني، وخلا لكِ الجو -يا طالبان- فبيضي واصفري.

واستمهلت أبا فراس، قلت له: يا عم الفرزدق! بالبلدي مش موضوعنا، أنا هنا لمهمة أخرى ولم أطلب منك التعليق على الأحداث الساخنة في أفغانستان ولا جريرستان ولا أخطلستان، فأجابني بمنطق لا بأس به، قال: يا أفندي! خرجت من المدينة وقتما طردني عمر، وقد اسودت الدنيا في وجهي، إذ كان زياد ابن أبيه يطلب رأسي، وقررت السفر إلى اليمن، غير أن ربك يسّر الأمر وقبض زيادًا وأنا في الطريق؛ فعدت وقد انفتحت لي آفاق جديدة، مثلما انفتحت للمجاهدين في بلاد الأفغان صفحة لم يتوقعها كثيرون.

لن أسمح لأحد أن يبخسني حقي، إنني هاجمت العائلة الحاكمة في عز هيبتها، بل وهاجمت معاوية بن أبي سفيان نفسه، وامتدحت زين العابدين علي بن الحسين

ولا أخفيك سرًا أني حينها قد مدحت أناسًا لا أحبهم، مدحتهم لا لشيءٍ إلا لأجاري الموجة الجديدة، والناس أتباع من غلب، وبالمناسبة فإنني هجوت زيادًا بعد موته -وهذا سيجري في أفغانستان حذو النعل بالنعل- هجا وإن لم أتجرأ على ذلك في حياة زياد، قلت (أبلغ زيادا إذا لاقيت مصرعه/ أن الحمامة قد طارت من الحرم/ طارت فما زال ينميها قوادمها/ حتى استغاثت إلى الأنهار والأجم)، وقد فتح عليَّ ذلك بابًا من الطعن والنقد، قيل إنني عديم الوفاء، وإنني مدحت الحجاج بن يوسف الثقفي في حياته، ثم هجوته بعد وفاته، وليس هو وحده الذي لقي من ذلك.

اتهموني بأنني إمعة سياسة ومطبّل من طراز رفيع وبهلوان للسلطة، في حين رأوا في جرير أنه من الأوفياء سياسيًا، وهل في السياسة وفاء أو ولاء أو صفاء؟! صحيح كنت على علاقة طيبة مع الشيعة والأمويين وبني العوام وآل المهلب، "وعلى كل لون يا باتستا"، ما المشكلة في ذلك؟ أمن الضروري أن أتعصب لفريق وأعادي الآخرين؟ ولكن هل يتناقل هؤلاء عني ما كان بيني وبين هشام بن عبد الملك حين أنكر مكانة زين العابدين بن علي؟ لماذا لا أرقص للقرد في دولته؟ وهل معاداة السلطان حكمة؟!

وللأمانة، فقد استضافتني فضائيات عدة، كالت لي التقريع والتقطيع واستهجان تصرفي وشجب موقفي، واعجب معي فمن لامني بالأمس هو عينه من يطبّل ويتشقلب حبًا في الوافدين الجدد إلى القصر الرئاسي، وهل أغرب من أن يستعملوا جملتي التي عابوها عليَّ قبل قرون خلت، يوم قلت "نكون مع الواحد منهم (صاحب القصر والحكم) ما كان الله معه؛ فإذا تخلى عنه انقلبنا عليه".

إن موقفي في الاصطفاف ضد السلطة لا مزيد عليه، ولن أسمح لأحد أن يبخسني حقي، إنني هاجمت العائلة الحاكمة في عز هيبتها، بل وهاجمت معاوية بن أبي سفيان نفسه، وامتدحت زين العابدين علي بن الحسين، وهاجمت هشام بن عبد الملك مهاجمة ضارية، أليس في ذلك ما يؤكد أن لي موقفًا ما في عالم السياسة؟ أجبني إن شئت!

لم أجد بدًّا من الرد على عمنا الفرزدق، قلت: متأفورش يا أبو فراس! أنت لم تعارضه في شأن جلل، وإنما هي مسألة ليس لها كبير تأثير على بلاط الخلافة، لا سيَّما وأن هشاما حج في خلافة أبيه أو أخيه، ومن ثم فهو ليس رأس السلطة، ولا يعد ذلك أكثر من معارضة صورية.

أطرق قليلًا وقد امتعض من مداخلتي، قبل أن يستجمع شتات فكرته وقال: أتستقي معلوماتك من ويكيبيديا! ألم تعلم أن للعائلة الحاكمة نفوذاً، يا هذا! إن كلبَ الوالي يُعامل -بين الناس- معاملة الوالي، فما بالك بأميرٍ وولي عهد! لقد غضب هشام مني وحبسني مدة، وهجوته وأنا في السجن، ومن ذلك قولي (يُرَدِّدُني بين المدينةِ والتي/ إليها قلوبُ النَّاسِ يَهوِي مُنِيبُها/ يُقلِّبُ عَيْنًا لم تَكُنْ لِخَلِيفَةٍ/ مُشَوَّهَةً حَوْلَاءَ بَادٍ عُيُوبُها).