في ضيافة الفرزدق (4)

في ضيافة الفرزدق (4)

09 اغسطس 2021
+ الخط -

عاد أبو فراس من مغامرته وقد انشرحت أسارير وجهه، التمست بداية مناسبة لمفاتحته في الموضوع الشائك، والتمعت في ذهني فكرة لم أرتب لها قبلًا! عرضت عليه مشاهدة فيلم في سينما ماجدة بحلوان العامرة؛ فوافق سريعًا وأمَّل أن يرى شيئًا يفتح النفس ويتباعد عن الكليشيهات المحفوظة.

همس في أذني: هل نجد الآن فيلمًا للأستاذة سلمى حايك، كريستينا هيندريكس، صوفيا فيرغارا، كيت آبتون، ولو حتى بروكلين ديكير؟ لم ينتظر جوابي -وهو يمسح عرقه بطرف ثوبه- وتفاديًا للإحراج واصل: كيفما اتفق فأنا أثق في ذوقك وأرجو ألا تفرط في هذه الثقة، ودخلنا وخرجنا وكأن على رأسه الطير الأبابيل!

قبل مدة، كانت كاميرات المراقبة في بعض شوارع البصرة، قد رصدت عمنا الفرزدق في وضع مش ولا بد، بسلامته زير نساء من طراز فريد بالرغم من شكله غير العاطفي، ربما تأتَّى له ذلك إشباعًا لعقدة أو مركب النقص أو اتكالًا على حسبه ونسبه، أو لأبعاد أخرى لم تُكشف تفاصيلها بعد.

وصفوة ما سجّلته الكاميرات الرجل الألعوبان -سامحه الله وأخزى شيطانه- راقب بيت سيدة من حسناوات أهل زمانها، وكان يعرف زوجها معرفةً متينة، ولما خرج صاحب الدار إلى عمله تزلَّف الفرزدق مستعينًا بالخادمة إلى الحسناء، وأمكنته الفرصة من تقبيلها لقاء إهداء خادمتها قطعة من قماش طبيعي نادر، زعم أنه من الشيختوش الهندي المطعَّم بحرير التوت، وكان له ولها ما سعيا إليه!

لم يقنع الزير بالرشفة -ومن ذاق عرف- وأراد أن يعبّ حتى يرتوي، ولما كان الأمر عسيرًا احتال لنفسه، كل ذلك مسجَّل بالصوت والصورة ولا مجال للإنكار، فلما استيأس منها جلس أمام الدار حتى أقبل الغائب، وسأله عن سر قعوده على قارعة الطريق؛ فأشار اللئيم إلى بيتٍ قائلًا إنه طلب شربة ماء ومن لهفته سقط منه الإناء وهو يشرب فانكسر، وعقابًا له أخذ أهل البيت قطعة القماش الأثيرة لديه، وينتظر أن يقايض أصحاب الإناء ويسترد قماشه.

قام الفرزدق إلى فراشه يهذي مرددًا قول جرير فيه (وكنتَ إذا اغتربت بدار قوم/ لأحساب العشيرة شر والي/ تُجدَّعُ ما أقمت بها ذليلًا/ وتخزى عند منزلة الزيال)، ويتمتم: أخزاك الله يا ابن المراغة! كأنك ترصد أنفاسي

"يا عيب الشوم يا فرزدق يا أخويا! ده أنا في رُبع هدومي، ده بيتي وأنا هجيب لك حقك"، لم يكن البيت إلا بيت السائل نفسه، زوج الهيفاء الغراء مصقولة العارضين إياها؛ فقفز لصحن داره وفي ثوانٍ كان الفرزدق قد استرد الشيختوش -وفوقه بوسة حرفيًّا- ومضى يزهو بنفسه، يحسب أن لم يره أحد أو يُسجّل عليه هذا الموقف غير الأخلاقي بالمرة، لم يستفد من سلفه ولا من خلفه،  بما فيهم كلينتون وأندرو كومو!

ولن أكتمك -أيها القارئ الكريم- سرًا إن أخبرتك بما اعتمل في دواخل أبي فراس أثناء الفيلم، رأى طرفًا من مغامراته وصلت أصداؤها إلى أولمبياد طوكيو 2020، وكان عزاؤه الأول يتلخص في أن كاميرات البصرة ماكو قوية على عكس نظائرها التي رصدت الطبيب الرياضي الأولمبي لاري نصار، وإن كانت سُجِّلت عليه قُبلة ففضيحة نصار أدهى وأمر حتى هزّت عرش الجمباز الأميركي.

هذه السمعة السيئة وصمت تاريخ الفرزدق، وسبقته سمعته إلى المدينة عند واليها العادل عمر بن عبد العزيز، قطعًا لا نستطيع أن نوجّه له سؤالًا مثل: هل أنت متحرش؟ لماذا اخترت هذا الطريق المخزي منهجًا لحياتك الاجتماعية؟ كيف تغامر بأصلك وحسبك وتتهتَّك في شعرك وفي سلوكك؟ لكن أردنا أن نلفت انتباهه لذلك بصورة غير مباشرة، وإن كان قد أفاد من رسائله الضمنية في شعره ومعركته النقائضية مع ابن الخطفي، وشاء ربك أن يوافق على المقترح.

لعلك تسأل: أي فيلم شاهدتماه؟ والجواب إنه Athlete A 2020. وللحقيقة والتاريخ فقد ترك كاتب هذه السطور عمنا الفرزدق يشاهد المادة بمفرده، وراقب حركات جسد الشاعر الزير، ورصدت -وليتني ما رصدت- ما رمتني به شفتاه على مدى 103 دقائق.

أدرك صاحبنا المغزى وقعد مبهوتًا مدةً لا يحير جوابًا، وبعد أن استوثق من عدم توثيقنا أغلب مخازيه، اعتذر عما بدر منه وتعوّذ بالله من مصير ذئب هوليوود هارفي وينستون وكيفن سبيسي والقاضي بريت كافانو ولاري نصار وقائمة طويلة من المتحرشين الذين أسقطتهم حركة (مي تو) وأخواتها.

لعل سباب الفرزدق تناول تانارا بيرك، لا سيما وأنها مبتكرة حركة (مي تو)، وأليسا ميلانو صاحبة التغريدة الأولى عبر وسم/هاشتاغ (مي تو)، لكن من يُمن طالع هذا الفرزدق أن نيويورك تايمز لم تتناوله، وإنديانابوليس أغفلت اسمه من سجل المتحرشين، ولم يُحكم عليه ربما لعدم كفاية الأدلة وربما لتستر بعض المسؤولين عليه، غير أنه يبقى في نظر المجتمع متحرشًا رفيع المستوى، ربما يرقى إلى درجة لاري نصار في عالم الرياضة الأميركية، وكومو في دنيا الدبلوماسيين، ومع ذلك يظل رينهارد سيناغا صاحب العدد القياسي في اغتصاب برصيد 206 ضحايا، وللداهية الدهياء فكل ضحاياه من الرجال!

وقام الفرزدق إلى فراشه يهذي مرددًا قول جرير فيه (وكنتَ إذا اغتربت بدار قوم/ لأحساب العشيرة شر والي/ تُجدَّعُ ما أقمت بها ذليلًا/ وتخزى عند منزلة الزيال)، ويتمتم: أخزاك الله يا ابن المراغة! كأنك ترصد أنفاسي.