في حق البحث عن التميّز
عزيز أشيبان

بدافع غرائزي صرف يندفع الإنسان نحو البحث عن التميّز وإبراز الذات والظهور بشيءٍ مختلف ومميّز عن الآخرين، ليس بدافع التفوّق والتعالي عن البقية أساسًا وإنما من خلال تجسيدٍ ما، يبرز أهميّة وجوده وحساسية وظيفته داخل المجموعة بما يمنح حضوره معنى ما، من خلال عناصر مادية أو معنوية، تُقيم لها المجموعة الوقار والاعتبار والاعتراف.
هذا الطموح الفطري، يدفع المرء نحو السعي وراء اكتساب التميّز بالتماس الطرق المشروعة في بيئة وجوده، من عملٍ وجد ومكابدة واجتهاد واستثمار في المهارات الفردية وبناء تجارب في وعاءٍ تشكّله قوانين المحاسبة والمساءلة والتكليف حسب الكفاءة والاستحقاق وشرعية التنافس الشريف الذي يرقى بالجميع ويمنح التحفيز ويفتح الأبواب المُوصدة أمام التطلّع. نتحدّث عن قيم تجد ماهيتها في القانون البيولوجي الصرف المتمثّل في التعدّد والتنوّع، إذ في اختلاف وتنوّع الذخائر البشرية ونضجها من باب البحث عن التميّز الفردي إضافة نوعية للجماعة وتنشيط لروح الحركية وخلق دينامية إنتاج وإبداع وابتكار. في قلب هذه المقاربة الفاضلة ينبعث النمو والإقلاع وتقوم أعمدة الحداثة وتسمو دولة القانون ومجتمع المعرفة. يكفي أن نهم بدراسة التجارب التنموية عند بعض الدول لنجد بعض هذه الأفكار والمبادئ راسخة ونشطة بجلاء.
هناك من يعمل على وأد فكرة التميّز ويسود قانون التنميط والإجهاز على الكرامة والأنفة مقابل شيوع منطق التسوّل من أعلى هرم السلطة إلى أسفلها
من الطبيعي أن نتحدّث عن المقاربة العكسية، إذ حيثما وُجِد المُعطى الطبيعي الخالص والبناء المستجيب لقوانين الطبيعة انبعث معه المعطى الشاذ الهدّام حيث الورم الذي يجهز على جهاز مناعة النظام بأكمله ويؤسّس لمسار تضعضع وتراجع حتى يلج طرق الاندثار والزوال القسري. للأسف هناك من ينحو نحو التميّز عبر كلّ ما يهلك الحرث والنسل وينشر الفساد في الأرض. نتحدث عن الاستبداد وما يولد من رحمه من احتكار وتسلّط وريع وتعصّب قبلي يلقي بخيرات البلاد المادية والرمزية بين أيدي حفنة قليلة من الوصوليين الخونة، الذين استحكموا لسلطة الشهوات والأهواء والأنانية وحبّ الذات القاتل مع عدم الاكتراث بمصلحة الجماعة وشرف الانتساب إليها. يغدو حينئذ حق التميّز محرّمًا على الجميع وحكرًا على الحاكم الذي يحكم ويسود ويحدّد المقادير والأرزاق كيفما يشاء. وبذلك يتم وأد فكرة التميّز ويسود قانون التنميط والإجهاز على الكرامة والأنفة مقابل شيوع منطق التسوّل من أعلى هرم السلطة إلى أسفلها. وهنا تُصاب القيم في مقتل وتشيع فوضى المفاهيم والتصوّرات وتنتشر الاختلالات والاضطرابات النفسية والظواهر السلبية من ميل نحو الجحود والهدم والتبخيس.
وكما يمكر الحاكم ويجتهد من أجل توطيد ركائز وجوده يمكر البعض من المواطنين ويختارون الخروج عن القانون (حبر على ورق) والبحث عما يرحّب بسعيهم نحو التميّز ويمنحهم الفرصة لتحقيق الطموح وتحويله إلى واقع معيش. ثمّة من يختار عالم الإجرام انتقامًا من المجموعة التي أهملته أو احتقرته أو تسبّبت في زراعة الاضطرابات النفسية في دواخله. وهناك من يتجه نحو التطرّف حيث يجد من يُرحب به ويعتني به ويُعيد بناء أنساق الإدراك لديه ويوظّف طموحاته وطاقاته في ما يخدم التطرّف وأصحابه في الداخل والخارج. وكما ذكرنا في المقاربة الأولى، نقول إنّ إخفاقات الدول المتخلّفة تقدّم تمثلًا قويًا لهذا الوضع الشاذ.
من يحاكم إذن ومن المسؤول؟ السؤال يجيب على نفسه.
في تميّز الأفراد نقطة ارتكاز تستثمر العامل النفسي والذهني للأفراد وتصهر طاقته في قلب قوّة دفع نحو تكامل وتناغم وانسياب القدرات والمؤهلات وتدفق المؤثرات نحو تحقّق الإقلاع والنمو المستدام وراحة وطمأنينة للبلاد والعباد.

