فندق الرجال المنسيين (2/2)

فندق الرجال المنسيين (2/2)

22 سبتمبر 2020
+ الخط -

مع الوقت، لم تعد الهجمات المطالبة بهدم فندق الرجال المنسيين مقتصرة على بعض وسائل الإعلام، بل أخذت طابعاً أكثر جدية حين انطلقت من داخل المجلس المحلي لمدينة شيكاجو، حيث تعرض اثنان من أكبر فنادق الغرف المفردة هما فندق WILSON CLUB MEN’S HOTEL الواقع في شمال المدينة وفندق Ewing Annex الواقع في جنوبها، لهجمات شرسة من بعض أعضاء المجلس المحلي الذين طالبوا بهدم الفندقين لأنهما يسيئان إلى سمعة شيكاجو. كان آخر هذه الهجمات قد وقع في عام 2013 من قبل عضوي المجلس المحلي جيمس كابيلمان وبرندان رايلي، وحين قال الأخير في تصريح له عن فندق Ewing Annex إن "المواطن العادي في شيكاجو لن يقبل بأن يقوم بتسكين كلبه في مكان كهذا"، تعرض لانتقادات حادة بسبب ذلك التصريح المبالغ فيه، ونجحت منظمات أهلية متخصصة في دعم الفقراء والمشردين في شن حملة شعبية وإعلامية عرقلت قرار هدم الفندق وتشريد نزلائه الذين يمثل الفندق بكل عيوبه مكاناً أفضل لهم من "النوم في الشارع"، وهو ما قاله لي ذلك العجوز الغاضب، الذي لم أكن أفهم أن صراخه في وجهي يخبئ خوفاً من أن يفقد المكان الأخير الذي يمكن أن يلمّه من الشوارع وما يجري فيها من فظائع.

كان حديث المجلة المتخصصة في العمارة عن "الكبسولة الزمنية البشعة" التي يمثلها المربع السكني، يحيل إلى السمعة السيئة للمنطقة التي يقع فيها الفندق خلال السنوات التي سيطرت فيها المافيا على شيكاجو، واستحقت المدينة بسبب شخصيات عريقة في الإجرام مثل آل كابوني سمعتها الشهيرة في هذا المجال، لدرجة أننا في سنوات الصبا كنا نسمع أو نردد عبارة "زي ما نكون في شيكاجو" في معرض الحديث عن انتشار الجريمة، قبل حتى أن نعرف مكان شيكاجو على الخريطة. كان يطلق على ذلك الجزء من المدينة الواقع جنوب شارع كلارك اسم Little Cheyenne نسبة إلى مدينة تقع في ولاية Wyoming في الغرب الأوسط، كان يضرب بها المثل في انتشار الجريمة وعصابات الخارجين على القانون التي شكلت أسطورة الغرب الأمريكي المتوحش الواردة في آلاف الروايات والأفلام والحكايات الشعبية، وهو ما لم يفوته سكان مدينة Cheyenne الذين قرروا ثأراً لأنفسهم أن يطلقوا على أسوأ أحياء مدينتهم سمعة اسم Little Chicago.

المثير أن المبنى الذي يقع فيه الفندق ظل لسنوات ملكاً لعضو مجلس محلي اسمه مايكل كينا، كان معروفاً في العقود الأولى من القرن العشرين بضلوعه في أنشطة الجريمة المنظمة، وكان يحمل اسماً مستعاراً هو مايكل هينكي دينك Hinky Dink، كان الفندق وقتها يحمل اسم Alaska لكن اسمه تغير في الخمسينات إلى Ewing Annex ربما لكي يتخلص من سمعة مالكه السيئة، لكن أوضاع وأحوال الفندق نفسها لم تتغير، حتى بعد آن آلت ملكيته إلى الأخوين راندي وواين كوهين، الذين يمتلكان عدة محلات في نفس المربع السكني، من أبرزها محل الرهونات الذي تغطي إعلاناته واجهة المبنى، والذي أصبح معلماً شهيراً في عام 2013، بعد أن ظهر هو والأخوين كوهين في حلقات برنامج تلفزيون واقعي ناجح، يحكي قصص بعض المترددين على محلات الرهونات للتخلص من أزماتهم المالية الطارئة.

تدوينة بلال فضل - لافتة الفندق

حين بدأ عضوا المجلس المحلي حملتهما الشرسة على الفندق في عام 2013، كان مارك براون أحد كتاب صحيفة شيكاجو صن تايمز التي تحظى بشعبية في المدينة، والذي تضامن مع نزلاء الفندق ضد حملة هدمه، قد أبدى تخوفه من أن يقوم الأخوان كوهين باستغلال شهرتهما الطارئة لرفع سعر بيع الفندق، لكن الأخوين كوهين خيبا ظنه، ورفضا كل عروض بيع الفندق التي جاءتهما بأرقام فلكية، وأكدا أن الفندق سيظل مفتوحاً لخدمة أصحاب الظروف الصعبة وخصوصاً قدامى المحاربين الذين لا يصح أن يتركوا لكي يتشردوا في الشوارع، وقال راندي كوهين في تصريحات صحفية تعليقاً على ذلك: "لا أحد يهتم بهؤلاء، أنا أهتم بهم، صحيح أنني أخسر مادياً، لأنني أقوم بتأمين المكان، ونحافظ على نظافته، لكن لو أغلقنا الفندق سيكون هناك مشردون أكثر في الشارع، لن أسمح بذلك".

موقف الأخوين كوهين ساعد مسئولي المنظمات الأهلية في حملتهم للحفاظ على الفندق، خصوصاً أن إدارة المدينة لم تقدم حلولاً بديلة يمكن أن يلجأ إليها نزلاء الفندق بعد إخلائهم منه وبيعه، وفي تصريحات صحفية له قال واين ريتشارد رئيس التحالف الداعم للمشردين: "لا يمكن أن تجعل الناس مشردين بدعوى تطوير المدينة، نزلاء الفندق قد يكونون في الدرك الأسفل بالنسبة للمسئولين عن الإسكان، لكنهم في النهاية ليسوا مشردين، لأنهم يدفعون إيجارهم بانتظام، وكثير منهم يعمل في أماكن قريبة من الفندق، بعكس بعض فنادق الغرف المفردة التي كانت موجودة في شمال المدينة، ولم يكن من يسكنها قادراً على دفع إيجاره بانتظام، ولذلك تم إغلاقها في النهاية".

انتقد واين ريتشارد عضوي المجلس المحلي الذين قاما بالهجوم على المكان والتحقير من شأن ساكنيه، دون أن يضعا أقدامهما فيه ليشاهدا أحواله وأحوال ساكنيه، بينما تردد هو على المكان لعدة أسابيع، وقام بالتصوير مع نزلائه ونشر الفيديو الذي صوره على الإنترنت، حيث ظهر فيه نزلاء قدامى للفندق مثل تايرون بولوير المقاتل السابق في الجيش الأمريكي والذي عاش في الفندق لمدة أربع سنوات وأصبح يعتبره منزله معبراً عن ذلك بقوله: "نحن هنا نراعي بعض ونخاف على بعض، هذا هو منزلي، أنا لست عاراً على المجتمع، أنا فخور بنفسي وهذا هو الوطن بالنسبة لي". هناك أيضاً كليفورد كوستيللي الذي خسر منزله بسبب عدم قدرته على تسديد ضرائب الملكية، وبعد إصابته بمرض في الجهاز التنفسي هجرته زوجته وسافر ابنه إلى ولاية أخرى، ولأنه يحتاج إلى جهاز تنفس باستمرار، كان الفندق بالنسبة له مكاناً لا غنى عنه لاستمرار حياته، وهو يقول عن تجربته في الإقامة الطويلة فيه: "لا أرى أن المكان سيئ، هو أفضل من الشارع، نعم تحدث هنا خناقات عادية لكن لا توجد معارك مخيفة تشكل خطراً على الإنسان كالذي يمكن أن يحدث في الشارع، لدي صداقات هنا ببائعي صحف وعمال في مطاعم، في النهاية نحن بشر مثل غيرنا، لسنا مشردين، لدينا سقف فوق رؤوسنا وأموال في جيوبنا تكفي لدفع إيجار مكان نظيف".

الصورة
تدوينة بلال فضل - أروقة الفندق

حين ذهب محرر موقع (Block Club Chicago) لزيارة الفندق قبل أن يكتب عنه، التقى بمدير الفندق مايك بوش الذي يقيم فيه منذ خمسة وعشرين عاماً، والذي وصف الفندق أنه "مجتمع صغير يحرص أفراده على بعضهم ويتضامنون مع بعضهم البعض. هناك أشخاص في هذا المكان مقيمون منذ 30 سنة، البعض مقيم هنا منذ عقد من الزمن، لدينا أنواع مختلفة من البشر تسكن هنا، سائق أتوبيس نقل عام، طلبة، عمال مطاعم وفنادق"، وتحدث عن تلقي نزلاء الفندق مساعدات وأطعمة من بعض المطاعم القريبة في المنطقة، وتلقيهم مساعدات من منظمات خيرية، بالإضافة إلى قيام أشخاص عاديين بالمرور على الفندق والتبرع بأغذية وملابس، وحين تجول محرر الموقع في أروقة الفندق الضيقة بصحبة مديره، وجد أغلب الغرف متناهية الصغر مشغولة بالسكان الهادئين المنشغلين بأحوالهم، ووجد المبنى نظيفاً بما فيه الحمامات العامة وغرفة الجلوس المشتركة التي تم وضع تلفزيون فيها ليشترك النزلاء في مشاهدته.

في حديثه المصور، يقول مايك بوش عن فندقه ونزلائه: "كما ترون، المكان ليس مخيفاً، لا يوجد أشخاص مرميون على الأرض وإبر ضرب المخدرات تتدلى من أذرعتهم، لكي تحجز غرفة تحتاج إلى أن تقدم إثباتا لدخلك، حتى لو قدمت رخصة بائع متجول، بعض الذين يغادرون الفندق حين تتحسن ظروفهم يعودون لزيارة أصدقائهم المقيمين فيه، هناك شخص كان يعمل في السكة الحديد، بعد أن قام بالطلاق حكمت عليه الظروف أن يسكن هنا، كان يفكر في قتل نفسه بعد أن وصل إلى هنا، تحدثت معه وأقنعته بألا يفعل، وبعد أن تحسنت ظروفه وغادر الفندق، عاد بعد فترة ليخبرني أنه قام ببناء منزله الخاص، نزيل آخر كان طالباً واضطر للعيش هنا لكي يكون قريباً من كليته، ولم يكن يستطيع الإقامة في مكان أفضل، الآن تخرج وأصبح لديه البيزنس الخاص به، في النهاية على الناس أن يتذكروا أن ما يفصلهم عن الإقامة هنا عدم حصولهم على مرتب شهر أو شهرين".

الصورة
تدوينة بلال فضل

ذكرني فندق الرجال المنسيين هذا، بفيلم جميل وحزين من إنتاج عام 2001، صنعه المخرج مايكل دومينيك عن فندق مماثل يقع في الجزء الجنوبي من حي مانهاتن بمدينة نيويورك، اسمه Sunshine Hotel تأسس في عام 1920 وتخصص عبر السنين في تقديم خدمة فندقية بأسعار زهيدة للغاية. رصد الفيلم بعض حملات التضامن الشعبي والإعلامي التي بدأت في التسعينات مع الفندق المهدد بالإخلاء والهدم، ونجاحها في عرقلة سعي المطورين العقاريين للاستيلاء على المبنى وطرد ساكنيه الذين التقى المخرج بهم وحكى بعض قصصهم الحزينة والمدهشة، واختار أن يفتتح حديثه عنهم بمقولة بديعة للكاتبCharles m. pepper  تقول: "كل مدينة كبيرة بها أخشاب طافية على السطح، ليست إلا حطام الرجال الذين جرفهم إليها تيار اليأس والإحباط، أجسادهم جائعة وأرواحهم ظمأى".

الصورة
تدوينة بلال فضل - مشردون في شيكاجو 1

حين بحثت عن مصير فندق (سنشاين) الذي ظل بعض نزلائه مصممين على الإقامة فيه، لأنهم لا يملكون خياراً آخر، قرأت أنهم خسروا قضيتهم في عام 2017، لأن صوت التطوير العقاري كان أقوى وأكثر نفوذاً، وقد حدث ذلك في نفس العام الذي تم فيه بيع فندق WILSON CLUB MEN’S HOTEL لشركة تطوير عقاري، وهو ما تابعه بالتأكيد سكان فندق Ewing Annex الذين يعرفون أن الأطماع ستظل قائمة في مقر إقامتهم الصامد بمفرده أمام زحف التطوير العقاري المستمر، ولذلك فهم مهددون في أي لحظة بفقدان السقف ذي الإضاءة البشعة والحيطان الضيقة المتسخة التي تحميهم من النوم في الشارع في برد شيكاجو القارس، خاصة أن الشوارع المحيطة بالفندق تمتلئ بعشرات المشردين الذين لا يمتلكون رفاهية دفع عشرة دولارات في الليلة، والذين ينظر الساكنون في فندق Ewing Annex إلى حالهم فيرونه كابوساً مرعباً يحاذرون العيش فيه، بينما يرى المشردون الحياة في ذلك الفندق التعيس حلماً بعيد المنال، لأن الطفو وسط البق أرحم بكثير من الغرق أثناء النوم في الطلّ.

الصورة
تدوينة بلال فضل - مشردون في شيكاجو 2
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.