فندق الرجال المنسيين (1/2)

فندق الرجال المنسيين (1/2)

21 سبتمبر 2020
+ الخط -

(فندق للرجال فقط). لم أكن أتوقع أن أقرأ لافتة كهذه في مدينة أمريكية كبرى مثل شيكاجو، وفي قلب المدينة، لا في إحدى ضواحيها.

تدوينة بلال فضل - فندق للرجال المسنين

قبل أن تقع عيني بالصدفة على تلك اللافتة القريبة من فندقي، كنت قد قرأت تقريراً صحافياً عن معاناة السيدات المصريات غير المتزوجات مع أغلب الفنادق التي تمنعهن من الحصول على غرفة بمفردهن، بدعوى حماية الفضيلة والأخلاق، ولذلك زاد فضولي لمعرفة السبب الذي يدفع فندقاً أمريكياً لرفع شعار (للرجال فقط). حين اتجهت نحو باب الفندق، أقلقني شكل المدخل الضيق الرثّ الذي يفضي إلى سلم طويل مريب، فلفت ترددي انتباه رجل ستيني جلس على السلم لالتقاط أنفاسه، ليسألني وهو يصوب نحو الموبايل والآي باد نظرات متفحصة: "هل تبحث عن غرفة؟"، فقلت له وقد توسمت فيه اللطف إنني لا أريد غرفة بل أريد أن أفهم لماذا تم تخصيص الفندق للرجال فقط، لأنها المرة الأولى التي أصادف فيها لافتة كهذه في كافة المدن الأمريكية التي زرتها؟ فقال ضاحكاً إن هذا القرار ليس تمييزاً ضد النساء، بل خدمة جليلة لهن، وإنني حين أرى غرف الفندق سأفهم السبب، سألته مستوضحاً: "هل الفندق سيئ إلى هذا الحد؟"، ولم أكن أتوقع أن يزعجه سؤالي، فينظر لي مستغرباً ويقول: "سيئ؟ كيف تظن أنني سأقول على مكان أسكن فيه منذ عشر سنين إنه سيئ؟"، وحين لم أفهم هل كان يسخر أم يتحدث بجدية، فوجئت به ينفجر فيّ غاضباً وهو يصرخ "هل تدري؟ ليس هناك ما هو أسوأ من النوم في الشارع"، وأخذ يكرر عبارته بصوت عال قضى على شهيتي المعرفية، ودفعني للابتعاد عنه وأنا أعتذر لإزعاجه.

حين حاولت الاستعانة بالحافظ مولانا جوجل لمعرفة معلومات عن الفندق، اكتشفت أن الصور التي التقطتها على عجل، لا تحوي اسم الفندق الذي رأت إدارته أن عبارة (للرجال فقط) تكفي لتعريف الزبون المستهدف به، وحين كتبت العبارة على خانة البحث في خريطة المنطقة، عرفت أن الفندق يحمل اسم Ewing Annex واتضح أنه ينتمي إلى طائفة فندقية توشك على الانقراض هي الفنادق الرخيصة التي تحتوي على غرف متناهية الصغر وحمام مشترك في كل دور، ولذلك يطلق عليها (فنادق المكعبات) أو ( SRO ـ فنادق الغرف المفردة)، ولأن الفندق الذي يضم أكثر من 200 غرفة، لا يوجد به طاقم عمل مقيم سوى الشخص الذي يستقبل النزلاء ويأخذ منهم إيجار الغرفة يومياً، لا تسمح إدارته بسكن النساء في الفندق حرصاً على سلامتهن أو في الحقيقة منعاً للمشاكل التي يمكن أن يحدثها وجودهن، وإن كنت قد وجدت ضمن التعليقات الموجودة في (جوجل) صوراً لأكثر من امرأة قمن بتقييم الفندق بشكل إيجابي، لكنهن لم تشرحن ملابسات سكنهن في الفندق، إذا كان ذلك قد حدث بالفعل، لأن سيدة اسمها كاثلين كتبت أنها لم تستطع الإقامة في الفندق لأنها امرأة.

أغلب الذين مروا بالمكان، كتبوا تعليقات سلبية عنه، ركزت على وجود البق والقمل في الأسرة والأغطية بشكل مزعج، أحد المعلقين لم ير فقط الحفرات التي أحدثها البق في المرتبة، بل رأى البق يتمخطر على جانب السرير، فقرر إلغاء إقامته واسترد فلوسه. وفي حين كتب مواطن أفريقي اسمه زازا معبراً عن خيبة أمله: "هل نحن حقاً في أمريكا؟ حتى في أفريقيا لدينا أماكن أفضل"، لكنه منح الفندق تقييماً "خمسة من خمسة" ربما شفقة على الساكنين فيه.

كتب نزيل آخر ساخراً: "كان الفندق كافياً لهاريسون فورد في  فيلم The Fugitive" إشارة إلى الفيلم التسعيناتي الشهير الذي قال لي موقع IMDB إن بعض لقطاته صورت في المنطقة المجاورة للفندق، ولأنني لم أشاهد الفيلم منذ فترة، لا أتذكر هل صورت بعض اللقطات داخل الفندق بالفعل، أم أن كاتب التعليق كان يشير إلى الحالة المزرية للفندق التي تجعله مكاناً صالحاً للهرب من أعين الشرطة.

في تعليق آخر، كتب نزيل اسمه روبرت ميتزجر ساخراً: "ليس سيئاً إذا وجدت غرفة ليس بها بق أو حشرات، وإذا لم يكن جارك مجنوناً أو مزعجاً، بالطبع هو ليس الهوليداي إن، لكن لأنه لا يوجد تكييف، أحضر معك مروحة صغيرة". نزيل اختار لنفسه اسم (موني بوي) كتب محذراً: " مكان فظيع، انسى، إوعى تعتب هنا"،  أما النزيل الذي اختار لنفسه اسم (من رجل عصابة إلى راجل بتاع ربنا) فقد كتب: "مكان مقرف مليئ بالحشرات، لن آتي إليه أبداً". نزيل آخر اختار تجهيل اسمه كتب قائلاً: "مسئولو المدينة يكترثون ببناء ناطحات سحاب وسجون بدلا من تسكين الغلابة"، في إشارة منه إلى سجن متروبوليتان الشهير الذي يقع في الناحية المقابلة من الشارع، والذي يتفرد عن غيره من سجون المدن بكونه بناية عالية الأدوار، أعلى حتى من سجن MDC في حي بروكلين بمدينة نيويورك، وقد اشتهر إعلامياً في الفترة الأخيرة بعد احتجاز المطرب الشهير R. Kelly فيه عقب إدانته بجريمة الاعتداء الجنسي.

على الجانب الآخر، لم يعدم الفندق معلقين أكثر تفهماً لطبيعته، كتب أحدهم ملخصاً أهمية المكان: "حشرات الفراش ليست مشكلة لمن يخافون من التجمد في الشارع"، وكتب نزيل آخر: "صحيح هو مقلب زبالة، ولذلك يريدون تدميره، بينما نحن نريد مثله في جميع أنحاء المدينة، ونريد أن يتم الاعتناء بالمجانين الموجودين فيه"، أما ويليام داروين فقد كتب: "ليس أحسن مكان لكنه أحسن من الشارع"، وهو ما يتفق معه بشكل ما راندال جيلبرت الذي كتب: "الناس الذين يعملون ويعيشون هنا من أفضل وألطف الناس الذين قابلتهم في حياتي، يوجد مناسبات خاصة تقام في المكان، لكني أعطيته نجمتين فقط بسبب الصراصير وحشرات الفراش"، ويؤكد عليه ريموند شاندلر الذي كتب: "ناس كويسين لكن الأوضاع سيئة"، في حين اكتفى جيمس هندرسون بالقول: "أحسن أسعار بين كل فنادق شيكاجو".

نزيل آخر كتب يصف الغرفة التي سكن فيها بأنها "باب وأربع حيطان، بس باب وأربع حيطان"، معبراً عن سخطه من تضييق الغرفة، لأن الفندق وضع فوق السرير سلكاً معدنياً يطلق عليه chicken wire لأنه يستخدم في مزارع الدواجن، ومع أن الفتحات الموجودة في السلك تساعد على استخدامها لتعليق الملابس على شماعات، خاصة أن أغلب الغرف لا يوجد بها دواليب، إلا أن صديقاً "أروباً" قال لي إن الهدف من وضع هذا السلك هو تصعيب مهمة اليائسين الذين قد يرغبون في شنق أنفسهم في مواسير التدفئة، ولذلك تم تحجيم ارتفاع السقف بحيث يكون في طول الإنسان العادي.

حين قرأت أكثر عن الفندق، فهمت لماذا قال لي الرجل العجوز المجهد إنه مقيم في الفندق منذ سنوات، فقد اتضح أن الفندق مقسم إلى قسمين، قسم يحتوي على غرف متناهية الصغر يسكنها النزلاء العابرون، وقسم يحتوي غرفاً أكبر قليلاً يوجد بها دواليب، وهي التي يسكن فيها البعض منذ سنوات، لدرجة أن هناك نزلاء اضطرت تصاريف الزمان بعضهم لأن يقيموا في الفندق منذ ثلاثين سنة وخمسة وعشرين سنة، وهؤلاء يدفعون في الغرفة شهرياً مبلغاً يتراوح بين 340 دولار أمريكي للغرفة التي لا يوجد بها دولاب، و440  دولار أمريكي للغرفة التي يوجد بها دولاب وكومودينو، وهو رقم خرافي في ضآلته، خصوصاً أن الفندق يقع في قلب شيكاجو، وبالقرب من ما يطلق عليه Magnificent Mile أو المربع الذهبي الذي يحتوي على مقرات كبرى الشركات وأفخم المحلات، وهي المحلات التي كانت قد تعرضت للنهب في حوادث الشغب التي اندلعت في وسط المدينة، في مطلع أغسطس الماضي، أي قبل وصولي إلى المدينة بأسبوع، وبالطبع عليك لكي تدرك مدى ضآلة ذلك المبلغ ألا تحسبه بعد تحويله إلى عملة بلادك، بل تتذكر أن دفع عشرة دولارات ونصف لإيجار غرفة في قلب شيكاجو يعتبر مبلغاً شديد الضآلة، ومع ذلك لم يكن نزلاء الفندق سيتمكنون من دفعه، لو لم يكن أغلبهم يعملون في المطاعم والمحلات القريبة من الفندق.

وجدت المزيد من المعلومات في تعليق كتبه قبل عام نزيل غاضب يبدو أن لديه مشوار طويل مع المكان، لكنه كتب التعليق تحت اسم مستعار: "من العار أن يدعو مكان كهذا نفسه فندقاً، هذا مكان يستغل حاجة الفقراء والمحتاجين، وموظف الاستقبال يقوم بخداع من يضطرون للإقامة هناك، الحمام قذر ومليئ بالصراصير التي تم قتلها على الحائط، لا توجد ملايات نظيفة، ولا يتم تنظيف وتعقيم الغرف، ما عدا اللوبي وغرف موظفي الفندق، الشبابيك مغلقة دائماً، والمروحة الضخمة تدور طول الليل وأصوات السعال تسمعها بقوة طيلة الليل، واحد فقط من جهازي التدفئة يعمل، وحين يشتكي الناس، تتعامل معهم الإدارة بشكل عدائي، يمكن أن يصل إلى حد الإيذاء البدني، فتطلب منهم أن يغادروا الفندق، أو يلجأ موظفوها إلى الدفاتر المزورة ليطلبوا منهم دفع مستحقات عليهم، حتى لو كانوا يمتلكون إيصالات تثبت أنهم دفعوا ما عليهم، المنظمات التي تقوم بمساعدة النزلاء، تكتفي بزيارة اللوبي حين تأتي إلى الفندق ولا تصعد إلى الغرف، ولذلك لا يعرفون حقيقة العار الذي يجعل أصحاب الفندق يحتالون على الفقراء والمحتاجين".

شجعني ذلك التعليق المشحون بالمرارة على البحث أكثر عن الفندق، فعرفت أن له وللمنطقة التي يقع فيها تاريخاً أكثر تركيباً مما ظننت، وكان أول ما وجدته تقريراً مطولاً في موقع متخصص في تقديم معلومات عن أحياء شيكاجو ومربعاتها السكنية، بدأ حديثه عن المنطقة التي يقع فيها الفندق بالقول إن مجلة (شيكاجو للعمارة) اختارت في عام 2012 المربع السكني الذي يقع فيه الفندق، مربع 400 جنوب كلارك ستريت، بوصفه أسوأ مربع سكني في شيكاجو، ووصفته بأنه "كبسولة زمنية ولكن من النوع السيئ" إشارة إلى كونه من الأماكن القليلة في المنطقة التي احتفظت بنفس ملامحها منذ عقود طويلة، في حين طالت يد التطوير والتغيير جميع المربعات السكنية المحيطة به، ليتضح أن المربع السكني الذي يقع فيه الفندق قاوم بشراسة رغبات المطورين العقاريين منذ عام 2000، وربما لذلك لم يكن توصيف المجلة السلبي له منزهاً من أغراض شركات التطوير العقاري الداعمة والراعية للمجلة.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.