فنان شقيان أول ما بدأ يرتاح مات (2/2)

فنان شقيان أول ما بدأ يرتاح مات (2/2)

08 يوليو 2021
+ الخط -

كانت هذه الهموم حاضرة آخر لقاء بيني وبين يوسف عيد، وقد كان هذه المرة لقاءً صوتياً عبر مكالمة طويلة لم أكن أدري أنني لن ألتقيه بعدها، كان ذلك بعد عيد الفطر عام 2014، وكنت قد شاهدت للتو دوره الرائع في فيلم (الحرب العالمية الثالثة) الذي لعب فيه باقتدار شخصية المطرب العالمي بوب مارلي، ليصبح دوره واحداً من أهم أسباب نجاح الفيلم الممتع. كنت وقتها أستعد لاستئناف كتابة سلسلة (الموهوبون في الأرض) والتي كنت قد بدأت كتابتها في مجلة الكواكب عام 1998 قبل أن تتحول إلى برنامج قدمت منه خمسة مواسم على شاشة التلفزيون العربي.

اتصلت برقم هاتف عم يوسف وتركت له رسالة على البريد الصوتي أنني فلان واريد أن أتحدث معه عندما يسمح وقته، بعد ساعات اتصل بي، وبعد التحيات والسلامات وتهنئته على دوره الجميل، وبعد أن تذكرنا بعضاً من المرات القليلة التي التقينا فيها بصحبة الفنان الكبير عادل إمام والفنان الكبير صلاح السعدني والذي كان من محبي يوسف عيد ومن مسانديه، منذ أن تعرف عليه في مسرحية (زقاق المدق) التي كتبها الرائع بهجت قمر عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة، وأخرجها المخرج الكبير حسن عبد السلام، وأنتجها المنتج الشهير سمير خفاجي، ولحن أغانيها بليغ حمدي شخصيا، ولعب بطولتها صلاح السعدني مع عبد المنعم مدبولي وسيد زيان وعبد الله فرغلي ومعالي زايد، والطريف أن يوسف عيد انضم إلى فريق عملها بعد وفاة الفنان الكبير محمود شكوكو، وهي مهمة كانت تبدو مستحيلة لكن يوسف عيد نجح فيها، بشكل جعل سمير خفاجي يوقع معه عقدا ليضمه إلى مسرحيته التالية (علشان خاطر عيونك)، التي كانت أسعد حظا بوجود نسخة مصورة منها تحفظها في الذاكرة.

فوجئت في المكالمة بعم يوسف عيد يبادر بعتابي لأنني كنت قد وعدته خلال آخر فيلم شارك فيه من تأليفي أننا سنعمل سوياً في دور أكبر، وهو ما لم يحدث بعد ذلك للأسف لأن كثيراً ممن عملت معهم كانوا يرون أنه لا يصلح إلا للأدوار الصغيرة، قلت له إنني سأؤجل الرد على عتابه إلى أن نلتقي للحديث في أقرب وقت ممكن، وفوجئت به يقول مستغربا "بس أنا لسه ما وصلنيش ورق من طرفك"، ففهمت أنه ظن أن مقابلتنا ستكون بخصوص عمل قمت بكتابته، وشعرت بإحباطه حين قلت له أنني أريد مقابلته لأكتب عنه في سلسلة عنوانها (الموهوبون في الأرض) وعددت له أسماء من كتبت عنهم من قبل ومن أنوي الكتابة عنهم، ثم أضفت أنني أريد أن أحكي له حين نلتقي عن مشروع أستعد لكتابته، به شخصية رئيسية لمغني يحترف الغناء في قهاوي الحسين بعد أن كان في السابق منشد تواشيح في إذاعة القرآن الكريم، ومع أنني أعلم أن المشروع مؤجل لأجل لا يعلمه إلا الله، إلا أنني فكرت أن أفتح شهيته الفنية للقائنا، وقد كنت محقاً في ذلك، لأنه تحمس جداً للفكرة وقال لي إنه سيكون دور عمره، وأنني لن أجد من يقوم بأداء هذه الشخصية مثله.

رحم الله يوسف عيد الفنان الجميل الذي "أول ما ابتدا يرتاح مات"، ورحم كل الفنانين الموهوبين "الشقيانين" من عناء الواقع الفني المرير الذي يفتك بمواهبهم دون عدل ولا إنصاف

بدأنا نتفق على المكان الذي سنلتقي فيه، وحين سألني عن عنوان مكتبي، قلت له إنني لا أمتلك الآن مكتباً، حيث كنت قد تركت وقتها العمل في صحيفة (الشروق)، وحتى لو كان لدي مكتب فأنا أريد أن أقابله في بيته وسط أسرته، لأن ذلك يشكل جزءاً مهما مما أرغب في كتابته عنه، وأنني أتمنى أن ألتقي بأفراد أسرته وبعض أصدقائه إذا تيسر ذلك، وفوجئت به يقول محرجاً إنه يفضل أن نلتقي في مكان آخر قائلاً: ""أصل أنا ساكن على قد حالي يعني في شقتي اللي ساكن فيها طول عمري في ميدان الجيش"، وعندما قلت ضاحكاً: "شكلك فاهمني غلط ياعم يوسف" مضيفا أنني أسكن في شارع القصر العيني، فوجئت به يقول بنبرة لا تخلو من المرارة: "الحمد لله محبة الناس بالدنيا وفلوسها.. وأنا شاكر فضل ربنا ومبسوط بالحتة اللي أنا ساكن فيها والناس فيها كلهم قرايبي وحبايبي وشايليني على دماغتهم من فوق وما بقتش أعرف أعيش في حتة تانية أصلا.. بس إنت عارف ساعات لما باركب تاكسي وأنا مروح من التصوير السواقين يفتكروني ساكن في التجمع الخامس وما يصدقوش إني ساكن في ميدان الجيش وبيفتكروني رايح أزور حد من قرايبي وبعد كده هاطلع على التجمع الخامس ولا ستة أكتوبر ويقعد السواق يقولي طيب أستناك لغاية ما تخلص.. ما تقطعش برزقي مشوار للتجمع الخامس هيطلع لي منه حسنة جامدة.. أقوله ما تطلع معايا تشوف عيلتي فوق في الشقة وأفتح لك الدولاب وتشوفني وأنا باغير هدومي عشان تتأكد إني ساكن هنا.. الناس يا عيني فاهمين إني باخد فلوس بالهبل مش عارفين الشقا اللي الواحد فيه ".

أخذت أحاول جبر خاطره بكلام مما يردد في هذه المناسبات عن "الفن الذي لا يكيل بالبتنجان"، والموهبة التي لا تساوي كنوز الدنيا، ثم قلت له صادقاً إنني حين نلتقي سأريه نماذج أحتفظ بها ترصد تأثيره المدهش على الأجيال الجديدة التي تعشق "دماغه" في الأداء الكوميدي، ليقول لي بسعادة إنه يتابع ذلك من خلال ابنه هاني الذي توقع أن يكون ممثلا جميلا مضيفاً بسخرية: "بس هو أحلى مني بكتير ويا رب يبقى مستقبله أحسن مني كمان"، فقلت وأنا أشعر بمرارته البادية في كلامه إنني أتوقع أن يكون دوره في (الحرب العالمية الثالثة) فاتحة خير عليه، وأنني متأكد أنه سيتلقى عروضا فيها مساحات أدوار كبيرة في الفترة القادمة، ليرد قائلاً: "ما أنا قلت ده هيحصل بعد فيلم الناظر وما حصلش.. وقلت هيحصل بعد مسلسل الراجل العناب وما حصلش.. الظاهر ربنا مش كاتب لي أستريح"، فقلت بحماس كنت أصدقه إن الموضوع في رأيي سيختلف هذه المرة لأن رد الفعل مختلف عن كل مرة، والمهم أن يحرص على رفض أي أدوار صغيرة من هنا ورايح، ليرد قائلاً بأسى إنني أعلم جيدا أن الأمر ليس في يده، لأنه في النهاية يوافق على أفضل ما يتم عرضه عليه، وأنه للأسف لا يتم معاملته بإنصاف من المنتجين، ضارباً مثلا بالفيلم الذي كان يعمل فيه وقت اتصالنا، وهو فيلم (عمر وسلوى) الذي لم يكن يعلم أنه سيكون آخر أفلامه، قائلا إن المنتج أحمد السبكي وهو الذي أنتج أيضا فيلم (الحرب العالمية الثالثة)، قال له بعد نجاح الفيلم إنه لا يريده أن يعمل مع أحد غيره، وأنه سيبدأ في تجهيز أدوار كبيرة له في الأفلام التي سينتجها.

أضاف عم يوسف قائلاً: "فرحت وقلت خلاص شكل الواحد أخيرا هيرتاح، ألاقيه بيتفق معايا بعدها على فيلم، ولما جينا نتكلم في الفلوس قال لي هتشتغل معايا باليوم ولّا هتطلب أجر، أنا تحت أمرك اطلب اللي انت عايزه، قمت أنا قلت أحسن لي أشتغل باليوم عشان ما أتعطلش لو جالي فيلم تاني فيه دور كويس، قلت لأ هاشتغل باليوم، ولما بعتوا لي السيناريو لقيت دوري كبير وأنا اللي شايل مشاهد كتير فيها ضحك، قلت ياريتني كنت اتفقت معاهم بالأجر، بس يالله نصيب". قلت له محاولا تهوين المسألة عليه إنني أعلم أن الحاج أحمد السبكي يحبه جدا هو وكل المنتجين الكبار، لسبب بسيط هو أنهم يشعرون بحب الجمهور له، وأنه لو "جمِّد قلبه شوية" سيختلف تعامل المنتجين معه الآن بالتحديد بعد أن لمسوا محبة الناس المتزايدة له خصوصا الشباب، فتمنى أن يكون كلامي صحيحاً، وأنهينا المكالمة بالاتفاق على موعد للقاء بعد أن ينتهي من تصوير فيلمه، وأن يكون اللقاء في شقته بميدان الجيش التي لم نكن  نعلم أنها ستكون بعد أسابيع قليلة محطته الأخيرة التي أنهى بها رحلته المتعبة في الدنيا التي سألها ذات يوم ساخراً "يا دنيا أنا باسألك.. ليه أنا ما طلعتش ملك.. ما أشبهش ولا إيه؟".

رحم الله يوسف عيد الفنان الجميل الذي "أول ما ابتدا يرتاح مات"، ورحم كل الفنانين الموهوبين "الشقيانين" من عناء الواقع الفني المرير الذي يفتك بمواهبهم دون عدل ولا إنصاف.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.