فلسفة التفاصيل: البحث عن الحكمة في المألوف
يُقال إن بداخل كل منا "فيلسوف صغير" يظهر عندما نتأمل الحكمة الكامنة في تفاصيل حياتنا اليومية وما نمارسه بشكل اعتيادي ومألوف. قد تبدو الفلسفة نخبوية وعميقة وبعيدة عن الواقع، إلا أن الإنسان مجبول على فطرة قوامها حب الحكمة والبحث عنها في كل ما يتراءى أمامه من أحداث وأفعال مألوفة وروتينية.
على سبيل المثال، من يعمل في مجال تصميم الغرافيك - بشتى أنواعه - قد يجد نفسه أمام شاشتين، إحداهما تبالغ بإشباعها اللوني، والأخرى تتسم ألوانها بالهدوء والبهتان. وبين هذه وتلك، الحقيقة اللونية تتوارى في منطقة وسطى تتطلب المعالجة والاختبار الدقيق. هذه الصورة، وإن بدت تقنية، إلا أنها تحمل رموزًا أعمق تتجاوز النطاق الحرفي؛ فهي تشير إلى نسبية الإدراك، ضرورة البحث عن التوازن، وحتمية المراجعة والتقييم لاكتشاف الحقيقة بشكل أعمق، وضرورة الاعتماد على المعايير والقيم المشتركة.
أول هذه الرموز هي نسبية الإدراك؛ كما لا يمكن لعين المصمم أن تدعي معرفة حقيقة تطابق الدرجة اللونية بين وسائط العرض الرقمية أو بين الرقمي والمطبوع، فإن حقول الفكر الإنساني هي كذلك متعددة الأوجه، كل شخص يراها من وجهة نظره، ولا يمكن معرفتها من خلال منظور واحد فقط.
ومن ثم يأتي مفهوم البحث عن التوازن؛ المصمم يعالج مشكلة اختلاف الألوان بين الشاشتين عبر إجراء معايرة لونية تحقق التقارب مع اللون المطبوع على الواقع. وكذلك الأمر فإن الباحث عن الحقيقة وسط تيارات المفاهيم والأفكار لا بد له أن يجد تلك النقطة المرجعية التي تتفق عندها هذه التيارات مع القوام الفكري السليم.
أما القيمة الحقيقية فتتجلى في التقييم والمراجعة؛ ففي إطار البحث عن اللون الحقيقي، يقارن المصمم بين عدة تباينات لونية، ويُخضعها للمراجعة والتقييم. وهكذا الشأن في الفكر الإنساني، إذ لا يكتمل الوعي إلا بمساءلة الذات والمحيط، فيرتقي الفرد والمجتمع حين يجعلان المراجعة والتدقيق معيارًا للتقدم والنجاح.
إلى جانب ذلك، يبرز مفهوم الاعتماد على المعايير والقيم المشتركة؛ تمامًا كما يبحث المصمم عن "بروفايل لوني" مرجعي، يحتاج الناس إلى مرتكزات ومرجعيات فكرية وأخلاقية تجسر الفجوات بين وجهات النظر. في هذه القيم المشتركة يكمن سر القدرة على التواصل وفهم الآخر، فتتحرر العلاقات من قيود التقوقع، وينفتح أفق الحوار.
إدراك الأبعاد الفلسفية في تفاصيل الحياة اليومية ليس إلا نتاجاً لما يتميز به الإنسان من تكريم إلهي ينعكس في قدرته الاستثنائية على التفكير ما وراء المعرفي (Metacognitive thinking) ووعيه لطبيعة تفكيره أثناء تأديته لمهامه الروتينية. البحث عن الحكمة في المألوف يكشف عن جوهر الحياة وحقيقتها. ويجعلنا ندرك مدى إمكانية تجاوز التفاعل السطحي اليومي مع الأشياء إلى إدراك عميق يتناول الإسقاطات الفكرية والمفاهيمية، مما يؤثر على تكويننا الذاتي على نحو دقيق وغير مباشر.