فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (8)

فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (8)

13 أكتوبر 2021
+ الخط -

فيما يبدو، شجعت مقالة مصطفى أمين المتعاطفة سعيد صالح على أن يدافع عن نفسه، ويرسل رسالة إلى مصطفى أمين، قام بنشر نصها في مقاله الأسبوعي بصحيفة (أخبار اليوم)، وأعتقد أن تأملها مفيد في فهم شخصية سعيد صالح وطريقته في التفكير والتعبير أيضاً، يقول سعيد صالح في رسالته:

"أستاذي مصطفى أمين: تكاد لا تفوتني كلمة كتبتها عن الحب والأمل، عن العطاء والتفاني، عن الإخلاص والصدق، عن الإيمان والتصوف، عن الصبر والحرية، والمستقبل والماضي والحاضر، عن الأصل والفصل، عن الجهل والتعنت، عن الكبرياء والكرامة، عن الحقد والتسامح، عن الشر والخير، عن الجوع والعطش، عن الأمل والعدم، عن الصدق والصداقة، والندامة والملامة، والعشم والندم، عن الرشوة والتقوى، عن الدستور والقانون، عن حقوق الإنسان، عن الموسيقى والغناء والتمثيل، عن الكبير والصغير، عن العبقري والغبي، عن الفنان والمتفنن، والواقف والماشي، والدوري والكاس، عن الأهلي والزمالك، وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وسيد درويش وطلعت حرب وعن نجيب الريحاني وعادل إمام، وعن الأم والأب والأخ، وعن الفنان والأمان والحنان ومشروع مترو الأنفاق، وعن طولة اللسان والبيان والجبان والشجيع والمريع والأليط وأبو رجل مسلوخة، وأبو ودن معووجة، وأبو شفة مقلوبة، وواحدة ست منكوبة وحط طوبة على طوبة. أكاد لا تفوتني كلمة عن الظالم".

ثم يقطع سعيد هذه المقدمة الإنشائية الطويلة ليتحدث عن قضيته ربما لأنه أدرك فجأة أنه استهلك الكثير من الوقت في الكتابة أو لأنه أفرغ شحنة عاطفية كانت تؤرقه، فيواصل حديثه قائلاً: "نودي على اسمي في المحكمة وسألني القاضي هل تعرف شيئا عن قضيتك فأجبته لا، فقال لي من حقك أن نؤجل لك القضية أو تقرأها أو تنتدب محاميا، تطوع بعض المحامين للدفاع عني فرفضت وطلبت أن أقرأ القضية، أخذتها وجلست في مكاني وقرأت أنا فلان الفلاني، فتحت محضر ضد (1) سعيد صالح (2) سمير خفاجي وأنني خرجت على النص بعبارات منافية للآداب، منها على سبيل المثال أنه قال "ينعل أبوك"، وبعد أن قرأت ما جاء في المحضر ناداني السيد القاضي وشرحت له ما الفرق بين النص والخروج على النص والإضافة التي يضيفها الممثل سواء المصري أو العالمي والفرق بين دور يمثله عبد الله غيث ودور يمثله عادل إمام، عادل يضحكني قوي وعبد الله غيث يبكيني قوي، وبعد انتهاء مرافعتي قرأ علي القاضي نص العقوبة على تلك الجريمة.

وتأجلت الجلسة لإحضار وإعداد مذكرات وسافرت إلى مصر وأبلغت محامي بما حدث وتركت له الامر، وقرأت في الصحف خبر أنه صدر الأمر بضبطي وإحضاري أمام المحكمة. ذهبت إلى الإسكندرية رغم ارتباطي بالتصوير في أربعة أفلام عندي ما يثبت تعطلها وارتباطي بها، وصلت الإسكندرية في الساعة الرابعة صباحا وحضرت الجلسة وأدخلني القاضي القفص وبعد أن قام القاضي بنظر 26 قضية جاء الدور على قضيتي. بعد مرافعة الشاهد الوحيد في القضية وهو مفتش الرقابة على المصنفات، فوجئنا بالقاضي يترك أمرا بحبسي 7 أيام وتركه وغادر المحكمة وأخذوني إلى قسم العطارين وجلست في القسم حتى الصباح ثم رحلوني إلى السجن. ثلاثة أيام وأنا لا أنام، أروح لمين؟".

كل ما نشرته الصحف سلباً وإيجاباً عن قضية سعيد صالح، لم يؤثر أبداً على موقف القاضي محمد بدر العدائي تجاه سعيد صالح، والذي كان واضحاً للغاية منذ أول لحظة

وكما تلاحظ فإن سعيد صالح لم يشر في رسالته إلى وجود اعتبارات سياسية وقفت وراء محاكمته، ولا إلى أي نقد سياسي قام بتوجيهه على خشبة المسرح وتمت معاقبته عليه، بل تحدث عن كون العبارات التي حوكم بسببها منافية للآداب، مع أن كاتب مسرحيته ناجي جورج كان كاتباً يسارياً وكان يكتب عموداً ساخراً بعنوان (يوميات موظف) في صحيفة (الأهالي) التابعة لحزب التجمع اليساري المعارض ـ وقتها ـ والذي كان يصدر أيضاً مجلة (أدب ونقد) الثقافية التي وجهت نقداً قاسياً لسعيد صالح ومسرحيته، كتبه الناقد البارز فؤاد دوارة بعد صدور الحكم على سعيد صالح بعنوان (موسم الفضائح المسرحية) ونشر في عدد المجلة الصادر بتاريخ 1 يناير 1984 متحدثاً عما وصفه بـ "فضيحة الممثل سعيد صالح التي فجرت أزمة القطاع الخاص وكشفت عن هبوطه الفني والأخلاقي والسموم القاتلة التي يشيعها في عقول مواطنينا، والقيم المنحلة التي يرسبها في وجدانهم وسلوكهم وأساليب تعبيرهم".

وبلهجة حادة لا تختلف عما نقرأه في نصوص كثير من الأحكام القضائية، ودون التفات إلى خطورة توقيع عقوبة الحبس على فنان بسبب تجاوزه للخطوط الحمراء التي ترسمها الرقابة يواصل فؤاد دوارة قائلاً: "فها هو ممثل أقبلت عليه الجماهير الطيبة وشجعته، فلم يقنع بما حققته من نجاح وما حفلت به مسرحية (لعبة اسمها الفلوس) من مواقف الفكاهة والإضحاك وهي مسرحية جيدة على قدر كبير من التماسك والنضج للكاتب ناجي جورج فظل يضيف إليها كل ليلة نكاتا وعبارات يرتجلها حتى أفسد بناء المسرحية وتجاوز الخروج عن نص المسرحية إلى الخروج عن الآداب العامة، وحررت الرقابة على المصنفات الفنية ثلاثة محاضر بمخالفات لسعيد صالح فلم يرتدع ومضى في إضافاته وارتجالاته، فتفوه بعبارات جارحة، لا يمكن صدورها إلا في البؤر والمواخير، فقدم إلى محكمة الآداب التي قضت بحبسه وتغريمه".

ولا يكتفي فؤاد دوارة بنقد المسرحية بكل هذه الحدة، بل يقوم بمهاجمة حالة التضامن التي قام بها عدد من الفنانين مع سعيد صالح قائلاً: "وبالرغم من الضجة الصحافية التي صحبت هذه الفضيحة المسرحية، فهي لا تمثل حالة خاصة أو شاذة في مسرح القطاع الخاص، بل هي شيء عادي ومألوف ومتكرر كل يوم، إنما اتخذت حادثة سعيد صالح هذا الحجم بسبب تحديه لسلطة النيابة، ورفضه المثول أمامها، مما اضطرها لإصدار أمر بالقبض عليه، وما حدث بعد ذلك أثناء التحقيق والمحاكمة لا يقل خطرا عن الجنحة نفسها، فقد تضامن مع سعيد صالح عدد من زملائه من نجوم الإضحاك، وملاوا الصحف بتصريحات غريبة، وخطب بعضهم في المحكمة يدافع عنه وعن حقه في الخروج على النص، بل بلغت بهم الجرأة حد زيارة القاضي في بيته بصحبة محاميهم، فلما لم يستجب لهم طلبوا رده، إلى آخر ما حفلت به الصحف من أخبار وتعليقات حول هذه الفضيحة الغريبة. وخطورة هذه التصرفات تتمثل في أن هؤلاء المضحكين قد تصرفوا كأصحاب النفوذ الذين يعتقدون أنهم بحكم علاقاتهم الخاصة ببعض كبار المسئولين قد أصبحوا فوق المساءلة القانونية، تماما كتجار الأغذية الفاسدة وبقية مجرمي عصر الانفتاح الاستهلاكي، الذين استندوا في ارتكاب جرائمهم واستغلالهم البشع للشعب، إلى علاقاتهم الخاصة ببعض كبار المسئولين، وما قدموه لهم من رشاوى وهدايا، وليس في هذا أي غرابة، فكلا الفريقين استغل الشعب، وقدم له غذاء فاسدا، وإن كان غذاء العقل والوجدان أخطر بكثير من فساد أغذية البطون، لأنه ليس من السهل كشفه كالأخير، ومن الصعب علاج آثاره عن طريق المصادرة والإعدام".

لكن كل ما نشرته الصحف سلباً وإيجاباً عن قضية سعيد صالح، لم يؤثر أبداً على موقف القاضي محمد بدر العدائي تجاه سعيد صالح، والذي كان واضحاً للغاية منذ أول لحظة، لدرجة أن هيئة الدفاع عن سعيد صالح تقدمت بطلب لرد القاضي مستندين إلى عدة أسباب منها اتهام القاضي بأنه سلك سلوكاً من شأنه إيلام المتهم نفسياً، حيث كان إذا وقف سعيد صالح أمره بأن يجلس، وإذا جلس أمره بأن يقف، لكن المحكمة غرمت سعيد صالح مائة جنيه لأنه تقدم بهذا الطلب وأسقطت حقه في طلب رد القاضي، وأمرت بحبسه احتياطياً، ليثير ذلك ضجة أكبر من الناحية القانونية، وقد كانت هذه الضجة مفيدة، لأنها أدت في جلسة النطق بالحكم إلى أن يعلن القاضي محمد بدر تنحيه عن القضية قبل أن ينطق بالحكم مبررا قراره بأنها أصبحت قضية رأي عام تناولها كل من هب ودب بعلم أو بجهل، وأعطى كل شخص لنفسه حق مشاركة القضاء في إصدار حكم فيها. وبعد تنحيه أصدر عبد الوهاب أبو الخير القاضي المنتدب لنظر القضية قراراً بالإفراج عن سعيد صالح بضمان مالي مائة جنيه مؤكدة أن الأصل في الإنسان البراءة إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، لينهار سعيد صالح باكيا بعد الحكم بالإفراج عنه.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.