فخ اسمه "وإلا؟"
تعلّق انتباهي كاملًا بالشاشة، أترقّب ما قد يلي تلك المفردة التي تُستخدم في جملة شرطيّة، والتي وردت على لسان رئيس الحكومة اللبناني المكلّف نواف سلام بعد لقائه رئيس الجمهوريّة المنتخب جوزاف عون وقبله الرئيس الفرنسي الزائر. قال الرجل في سياق تأكيده ضرورة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي إنّه أصرّ "على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يحصل الانسحاب الإسرائيلي فورًا وإلا..."، ثم بدا لجزء من الثانية كما لو كان يفتّش عمّا قد يقوله ويكون منطقيًّا بعد تلك المفردة.
على قصره، بدا لي ذلك الجزء من الثانية طويلًا جدًّا. ارتسم على وجه سلام تعبير من وقع في فخ مفردة تنزلق تلقائيًّا في هذا الشكل من الجمل، أو هكذا هُيّئ لي. بدا كما لو كان يفتّش عن كلمة مناسبة غير محرجة تلي تلك الـ"وإلا". ثم تابع قائلًا "وإلا... فإنّ هذا يهدّد استقرار البلد"، ليضيف أنّه "يجب على كلّ المجتمع الدولي أن يضغط في هذا الاتجاه".
وبما أنّ المجتمع الدولي ليس في خدمتنا كما ظهر في الشهور الأخيرة، فقد انتهى "السوسبنس".
تهبط من سماء الأمل بما قد يكون موجودًا في جعبة الرجل وأنت تجهله، إلى أرض الواقع الوطني المهين بعجزه، والمتمثّل بوقف إطلاق نار "خلّبي" ملأته إسرائيل بالخروقات حتى تحوّل إلى ما يشبه المصفاة، من دون أن يمتلك لبنان ما قد يردع العدو.
هذا والجميع يختار أن يغضّ النظر على صوت الموسيقى التصويريّة للمسيّرات التي تزنّ فوق رؤوسنا ليل نهار، تصوّرنا في كلّ الأوضاع والتحرّكات وتجمع في كلّ يوم تحديثات جديدة للداتا اللبنانيّة المفتوحة. البعض يغضّ بصره آملًا، عن عجز، التزام الكيان بعد نهاية مهلة الستين يومًا بالاتفاق بضغط من الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركيّة دونالد ترامب، وبدعم من "المجتمع الدولي"، وهو ما تبدّده تسريبات تتحدّث عن تمديد للمهلة بطلب إسرائيلي، والبعض الآخر غير مكترث، لا بل قد يكون مرتاحًا لما يعتقد أنّه بدء العصر الإسرائيلي الذي يناسب طموحاته السياسيّة في المنطقة.
صحيح. ما الذي يستطيعه لبنان، على ما رسا عليه حاله اليوم، إن لم تلبّ إسرائيل كلّ الاتفاق؟ أليس هذا أصلًا ما تفعله منذ بدء مهلة الستين يوما التي تلت دخوله حيّز التنفيذ، مقدّمة الدليل الساطع على إخلالها به؟ هكذا تراها تتحجّج باتفاق سرّي بينها وبين راعيتها الولايات المتحدة الأميركيّة يتيح لها استكمال "تنظيف" الخريطة اللبنانيّة، وخصوصًا الجنوب من وجود المقاومة وسلاحها. وكأنّ لبنان معنيّ بما تتفق وأميركا عليه من وراء ظهره! وحتى إنّها لا تتحجّج أحيانًا كثيرة والتبرير آخر همومها. فهي مشغولة بإبادة في غزّة من المفروض أنّها توقّفت الأحد الماضي، مبدئيًّا، وبتوغّل وتثبيت أقدام في الأراضي السوريّة، وبالتنكيل بالفلسطينيّين في الضفّة بمساعدة الرفيق أبو مازن.
يقول رئيس الحكومة المكلّف "وإلا هذا يهدّد استقرار البلاد"، كأنّ استقرار البلاد يهمّ، أو هو من مصلحة إسرائيل لكي تحرص عليه وتخاف تهديده، أو كأنّ المجتمع الدولي الذي يدعوه لدعم مطالبنا، والذي ساقنا "لانتخاب" رئيس تحت أنظار القناصل وبرعايتهم، استطاع أن يوقف إبادة كانت تُنقل ببثّ مباشر على الشاشات، وارتُكبت جهارًا نهارًا على مدى أربعمائة وواحد وسبعين يومًا في غزّة، وهي لا شكّ سوف تستكمل بأشكال أخرى، على الرغم من دخول وقف إطلاق النار هناك أيضًا حيّز التنفيذ. وهو اتفاق يبدو مصيره كمصير توأمه اللبناني إن لم يكن أسوأ.
كم هي محزنة تلك الـ"وإلا" التي لا تملك أدوات فعاليّتها، ولا اشتراط ما قد يردع العدو. وهي بالمناسبة وردت أكثر من مرّة بالشكل المحرج نفسه على لسان العديد من السياسيّين وذوي الشأن العام في لبنان، فبدت للمتابع المحلّي نوعًا من فخّ لغوي يفضح ما يغضّ البصر عنه فعليًّا من عجز، وإدراك لهذا العجز، في ظلّ التغييرات الزلزاليّة التي طرأت على منطقتنا عامّة وبلادنا خاصّة.
فخّ وقع فيه العديد من السياسيّين بتلقائيّة تماثل تلقائيّة ورود اللفظة المنطقي في تكوين الجملة الاشتراطيّة.
هكذا، يقبع قلب المواطن اللبناني في عراء المؤسّسات التي من المفترض أن تحميه. بيوته مهدّمة وسماؤه مستباحة، أعصابه وتحرّكاته وخريطة بلاده بكاملها تحت سيطرة المسيّرات الزنّانة آناء الليل وأطراف النهار، غير آمن على طرقاته من اغتيال بصاروخ أو تفجير بغارة، لا يعرف مصير أسراه ولا يسمع بمن يتحدّث بأمرهم أو يأتي على سيرتهم. ومع ذلك يأمل، ما إن تتشكّل الحكومة، ظروفاً أفضل للبحث في أمرهم والتفاوض على حرّيتهم، كما فعلت "حماس" لأسرى حزب الله عرفانًا بالجميل لجبهة الإسناد.
خلاصة القول، لا أمل في سيادة لمن لا يملك أدوات تلك السيادة، وإن كان أهمّها سلاح لجيشه الممنوع من التسلّح حتى بسلاح دفاعي من أجل القيام بواجبه بحماية أرضه وشعبه، فليس أقلّها أهمّية قراره الوطني.
في حفل للسيدة فيروز في الأردن أوّل الألفيّة، كان مميّزًا لأنّها غنّت فيه أغنيتها الشهيرة "زهرة المدائن" للمرّة الأولى منذ تسجيلها وغنائها نهاية الخمسينيات، حرصت السيّدة المعروفة بالتعبير عن آرائها عبر أغانيها على عدم غناء مقطع "الغضب الساطع آت" احترامًا للواقع. ذلك أنّه يومها في الحقيقة لم يكن هناك أي غضب ساطع آت ولا حتى كان يلوح ظلّ له في الأفق.
ليت الجميع يتحلّى بلباقة واقعيّة فيروز.