فإمّا عبرة أو مثال
"انهض، لكي تصبح الحملان أسوداً".
(روبن هود)
***
يجلس الرجل الثمانيني في غرفة احتجازه بثياب الرياضة مولياً نظره إلى النافذة المقابلة المُغطّاة بستارةٍ زرقاء لا تشفّ عمّا خارجها. لا أفهم لم كان ينظر إليها هكذا على الرغم من ألا شيء يظهر خلف الستارة. لا سماء ولا خارج.
يجلس وقد بدا عليه التقدّم بالعمر، شعره ولحيته وشارباه، كلّها شابت بالكامل. بدا شارداً مع أنّه من المفروض أنّ لديه زوّاراً! هل يكون ذلك لأنّ المصوّر طلب منه اتخاذ تلك الوضعية؟ لا أظن. يبدو أقرب إلى أن يكون متأمّلاً في لحظةِ صمتٍ كتلك التي تلي كلاماً كثيراً. مقابلة مثلاً.
الصورة وصلت أولاً. أرسلها لي صديق من فرنسا من أنصار حزب "فرنسا الأبية". في اليوم التالي انتشر فيديو مدته أقل من دقيقة بدا أنّ الصورة أعلاه مقتطعة منه. في الشريط كان الرجل واقفاً، يتحدّث بالفرنسية إلى زوّاره، الذين تبيّن أنّ أحدهم النائبة في البرلمان الأوروبي عن الحزب الفرنسي والمناضلة الفلسطينية الأصل ريما حسن.
هي المرّة الأولى التي أرى فيها زنزانة جورج إبراهيم عبد الله من الداخل، خصوصاً أنّ حركة الكاميرا في الفيديو تتيح أن تكتشف تفاصيل كثيرة. خلفه على الحائط نرى ملصقات باللغة الفرنسية لخريطة فلسطين، وبوستر كبير لتشي غيفارا. ثم يتحدث بلكنة جنوب فرنسا حيث يقع سجنه، ليقول إنه "طالما هناك رجال ونساء يناضلون لأجل مستقبل أفضل، فهذا يعني إمكانية تغيير الواقع، واقع الإبادة (في فلسطين) وتبريراتها".
يشترط سجان جورج عبد الله عليه لتنفيذ إطلاق سراحه أن يعتذر. لكنه ومنذ سنوات يرفض ذلك لأنه أصلاً لم يفعل شيئاً
دُهشت بدايةً لإمكانيّة زيارته في غرفته وتصوير تلك المقابلة، فهذا سجن. وأنا أتابع الرجل منذ سنوات إقامتي في فرنسا وعلى صلة باللجنة الفرنسية من المواطنين التي تدعمه وتناضل لإطلاق سراحه منذ عقود.
ثم قلت في نفسي: الأرجح أنّ السلطات الفرنسية تسمح بذلك بسبب شعورها بالذنب لاحتجازه لأكثر من أربعين عاماً، ظلماً أولاً، وخلافاً للقانون ثانياً. لا بل بالتحايل لعدم تطبيق أحكام القضاء الفرنسي، وأحياناً من دون حتى تحايل، انصياعاً للأوامر الأميركية. تماماً كما حصل في قرار إطلاق سراحه الأخير نهاية العام الماضي والذي توقّف بعد رسالة من وزارة العدل الأميركية غاية في الوقاحة اعتبرت فيها أنّ إطلاق سراحه وانضمامه إلى "عائلته الإرهابية في لبنان" سوف يزعزع الاستقرار هناك!
كان ذلك والعدوان الإسرائيلي يعيث فساداً وتخريباً للاستقرار في المنطقة بكاملها، مرتكباً سلسلة من الاغتيالات لمواطنين لبنانيين وغير لبنانيين، وموغلاً في إفناء الفلسطينيين أو محاولة ذلك.
أيّ تهديد يشكّله رجل في العقد الثامن من عمره وقد قضى ثلاثة أرباع ذلك العمر في تلك الزنزانة؟ هل هناك هدف آخر لاستمرار احتجازه ما عدا تنمّر دولة تستطيع للأسف أن تجبر بلداً كفرنسا على أن تستمر باحتجاز سجين، قضى أكثر من ضعفي مدّة عقوبته، على تهمة، هي أصلاً موضع ارتياب بصحتها؟
أراد أعداء قضيّة جورج إبراهيم عبد الله تحويله إلى عبرةٍ فاستطاع أن يتحوّل بمقاومته إلى مثال
عشرات القرارات منذ عام 1999، أي منذ استوفى جورج إبراهيم عبد الله متطلبات إطلاق سراحه المشروط وفقاً للقانون الفرنسي. عشرات القرارات رُفضت بداية ثم قُبلت فرنسياً، لكن أُوقف تنفيذها أميركياً.
بداية عبّرت فرنسا يومها صراحة عن تخوّفها من أن يمثّل إطلاق سراحه "باعتباره شخصية رمزية في النضال ضد الصهيونية، حدثاً كبيراً في لبنان"، وفقاً للمديرية العامة للشرطة في ذاك الوقت (الجزيرة). نعم. منذ ذلك الوقت المبكّر كانت خطوات فرنسا تتجه بوضوح لجعل جورج إبراهيم عبد الله عبرة لكلّ من تسوّل له نفسه مقاومة إسرائيل أو الدفاع عن فلسطين ضدّ الاحتلال، قبل حماس وقبل الجهاد وقبل حزب الله وقبل إيران.
ثم توالى الرفض الأميركي، واستئناف قرارات إطلاق السراح على الرغم من استفاقة الدولة اللبنانية المتأخّرة جداً، والمطالبة باسترداده كمعتقل سياسي، أولاً من قبل رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي عام 2012، ثم من قبل الرئيس السابق ميشال عون عام 2014.
طبعاً سبقت تلك المحاولات العلنية محاولات أخرى في السرّ ارتطمت دوماً تارة بالإرادة الفرنسية وأخرى بالأميركية اللتين كانتا تلتقيان على اعتبار جورج إبراهيم عبد الله رمزاً يجب استخدامه عبرة.
يشترط سجان جورج عليه لتنفيذ إطلاق سراحه أن يعتذر. لكنه ومنذ سنوات يرفض ذلك لأنه أصلاً لم يفعل شيئاً. فالعالم بأسره بات يعلم أن تهمة "الإرهاب" لُفّقت له بعد احتجازه في المرّة الأولى بتهمة تزوير وثائق، وبالتواطؤ مع محاميه الفرنسي الأوّل الذي اعترف بلسانه بعد سنوات، وفي كتاب أصدره، أنه خان موكّله وكان عميلاً للاستخبارات الفرنسية.
هي جملة واحدة يحتاج أن يقولها جورج إبراهيم عبد الله ليُعانق حريته: أن يتبرّأ من أيّ مقاومة للاحتلال. لكنه لم يفعل. تثبت ذلك رسالة وزارة العدل الأميركية إلى السلطات الفرنسية، والتي تشير إلى رفض "السيد عبد الله الموثّق للتنصّل من «المقاومة» ضدّ أي «احتلال» للبنان» (الأخبار).
اليوم تبدو قضية جورج إبراهيم عبد الله تلك، وعلى الرغم من قدمها، عنواناً فعلياً للمرحلة التي نعيشها حالياً؛ زمن البلطجة الأميركية الإسرائيلية، زمن التنمّر بفائض قوّة يحوّل الكوكب وسكانه الى رهائن وضحايا ابتزاز، وإلى حقول اختبار "لأفكار" خطيرة على الرغم من تفاهتها.
أفكار لا تحترم قانوناً أو مبدأ أو شرعة، حتى في بلاد الحلفاء مثل فرنسا المُتباهية بقيم وسيادة، من الواضح أنها تخسر المزيد منهما كلّ يوم.
ببساطة أراد أعداء قضيّة جورج إبراهيم عبد الله تحويله إلى عبرةٍ فاستطاع أن يتحوّل بمقاومته إلى مثال. فتحية له.