غزة والمعادلة الأخلاقية في الحرب
حتى للحرب أخلاق، يا صديقي. فهناك فرق كبير بين من يحمل السلاح دفاعاً عن أرضه وعرضه، وبين من يرفعه لسرقة أرض واستباحة عرض. وإن اضطررت يوماً إلى القتال، فكن رحيماً بالطفل والمرأة والشيخ، ولا ترفع السلاح في وجه أعزل، وكن رحيماً بأسراك، وعاملهم بأخلاق دينك وإنسانيتك.
هذا ما تعلّمه رجال المقاومة الفلسطينية منذ صغرهم، هؤلاء الذين يعتبرونهم "إرهابيين" قادمين من الجحيم، بينما الذين قصفوا المستشفيات وحرقوا الخيام ودمّروا غزّة عن بكرة أبيها "أبطال". كم هو مثير للسخرية أن تُنكر حقائق يراها العالم أجمع، والأكثر سخرية أن يشهد شاهد من أهلك أنّ "العدو" كان أرحم. الأمر أشبه بأن تقوم يدك بصفعك، وهو ما فعله الأسرى الإسرائيليون بالكيان المحتل، لقد قاموا بصفعه، صفعة اسمها الأخلاق.
هدايا وابتسامات: ضيوف أم أسرى؟
لم يفشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية ضدّ غزّة فقط، فهو الذي نسف مستشفيات تعجّ بالجرحى والعاجزين، وحرق خيام اللاجئين، وقتل الصحافي والطبيب والمسعف، وداس على القانون الدولي، يقف الآن مُفلساً على مستوى الأخلاق في مقابل المقاومة الفلسطينية التي تقف بثباتٍ أخلاقي، والتي تُعامل الأسرى معاملة حسنة قلّ نظيرها في زمن الحرب، إذ تدهشك تلك الابتسامات والوجوه الضاحكة للأسرى أثناء عملية التبادل وهم محمّلون بهدايا تذكارية وشهادات تقدير وكأنهم كانوا ضيوفاً وليسوا أسرى حرب. هذه الابتسامات ليست لعبة أو مؤامرة إنها تعبير صادق عن مشاعر لا يمكن تزويرها، مهما حاولوا تزييف الحقائق وتشويهها. لقد باتتْ عمليات تبادل الأسرى في ما يخص الكيان كابوساً مخيفاً، فهي تثبت فشله الأخلاقي في كلّ مرّة تظهر فيها وجوه الأسرى ضاحكة، وهو الذي يتمنى أن تظهر من داخل السيارات وجوه باكية، خائفة دامية، عليها آثار التعذيب، لكن المقاومة تأبى أن تمنح الاحتلال ورقة رابحة كهذه وتأبى أن تُعامل أسراه إلا بأخلاقها لتبلغه رسالة تُضاف إلى سجل التاريخ: "أسراكم نحن وأسرانا أنتم". أي كلّ جهة تعبّر عن أخلاقها وإنسانيتها من خلال معاملة الأسرى.
خوف وصدمة: بشر أم حيوانات؟
عيون تفيض بمزيج من الفجيعة والصدمة، آثار تعذيب وضرب، وملامح سُرقت منها الابتسامة. إنهم أسرى فلسطينيون عائدون من الجحيم بجراح حديثة، هي بمثابة هدية تذكارية للجلاد قبل أن يعيدهم إلى عائلاتهم، لنتجاوز أمر المعاملة الحسنة للأسرى، إنها معاملة لا ترتقي حتى للمستوى، وتدفعنا إلى تكرار سؤال مؤلم: هل هم بشر أم حيوانات؟.
القوّة ليست في الكراهية والوحشية بل في الإنسانية
هم بشر طبعاً، لكن المحتل يراهم "حيوانات بشرية" يجب قتلهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، أمّا الإنسانية والأخلاق فتلك مسألة مفروغ منها لأنّ في الحرب كلّ شيء مُباح. إنه لمن المؤسف حقاً مقارنة أسير فلسطيني بآخر إسرائيلي، بين من يعود إلى عائلته بصحة جيدة وبين من يذهب إلى المستشفى ويواصل صراعه مع الموت، إنها مقارنة صعبة تكشف الوجه المظلم من الحرب، والمعادلة الأصعب بين المحتل والمقاومة. إنها المعادلة الأخلاقية.
المعادلة الأخلاقية: المعادلة الأصعب في الحرب
في ميزان الإنسانية اليوم، وفي ظلّ الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، تميل الكفة إلى صالح المقاومة، بينما يخسر الاحتلال رهان الأخلاق، حيث تُشعرك ابتسامات الأسرى الإسرائيليين وكأنهم كانوا في نزهة وليس أسراً، بينما في المقابل يُركل الأسرى الفلسطينيون في الزنازين وكأنهم مجرّد أرقام لا قيمة لها في معادلة الحرب التي قلّ ما تعترف بالإنسانية، إذْ من السهل أن تُعلّم شخصاً كيف يستخدم سلاحاً خلال يوم واحد، لكنك قد تستغرق سنوات لتعلّمه كيف يكون إنساناً.
في النهاية، وفي عالم يبدو أنه فقد صوابه، ما زالت المقاومة في فلسطين تُثبت لنا أنّ هناك فرقاً بين الجلاد والضحية وبين الإنسان وغير الانسان، وهذه الأخلاقيات التي تتمتّع بها المقاومة هي حصاد أم فلسطينية كانت تزرع بذور الإنسانية في قلوب أبنائها وتعلّمهم أنّ القوّة ليست في الكراهية والوحشية بل في الإنسانية، فعندما تكون إنساناً، حتى لو لم تكن تملك سوى الحجارة سلاحاً، سيقف العالم احتراماً لك. فليس كلّ إنسان... إنساناً في نهاية المطاف.