غزة... لوم الضحية بدلاً من ملاحقة المعتدي

24 يناير 2025
+ الخط -

470 يومًا من الرعب والحصار والقصف المستمر. 470 يومًا من القتل والتهجير والترهيب، لم تترك فيها آلة القتل التابعة للاحتلال الإسرائيلي وداعميه حجرًا على حجر، ولم تترك للغزيين سوى ندوب الفقد والأنين. 470 يومًا استودعت فيها غزّة أكثر من 64 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال، وأكثر من 100 ألف جريح، فضلًا عن آلاف الأرواح التي أُزهقت جوعًا ومرضًا، تحت أعين العالم المتخاذل، الذي اكتفى بالمشاهدة. وعلى الرغم من ذلك، لم تهن غزة، ولم تنكسر، بل صمدت كعنقاء هذا العصر، تُعيد تعريف مفهوم انبعاث الحرية من وسط الرماد.

غزّة التي حملت العبء الأكبر من الألم والتضحية لم تكن وحدها في معركة الحرية، فلها أشقاء حول العالم شاركوها الطريق، وقدّموا من تضحياتهم ما يليق بأحرار الأرض. ولكن غزّة وأهلها، بمعجزتهم الخاصة، كانوا رمزًا لصمود لا يلين، وعزيمة لا تعرف الانطفاء في مسارٍ لم يكن بدعة في رحلة البشرية. فعلى مرّ التاريخ، قدّمت الشعوب والأمم تضحيات عظيمة طلبًا للحرية والكرامة الإنسانية. ومع ذلك، تبقى الحقيقة المؤلمة أنّ لا شيء يمكنه تعويض فقدان الأرواح أو المعاناة الجسدية والنفسية التي يتعرّض لها الأفراد والجماعات خلال مسارات التحرّر، فالحرية، كما يعلمنا التاريخ، ليست عطاءً يُمنح بل هي حقٌ يُنتزع، ومقابلها دائمًا ثمن باهظ. 

لم تهن غزة، ولم تنكسر، بل صمدت كعنقاء هذا العصر، تُعيد تعريف مفهوم انبعاث الحرية من وسط الرماد

وللأسف، فإنّ التحديات التي تواجه الأمم في مسارات التحرّر لا تكمن فقط في تحمّل هذا الثمن، بل في كيفية استيعابه ومعالجته. فبدلًا من أن تُكرّم هذه التضحيات نجد أن بوصلة البعض الأخلاقية تنحرف بعد صراعات التحرّر بعيدًا عن المسار الطبيعي الذي يجب أن يتجه نحو محاسبة المعتدي وتوثيق جرائمه. وعوضًا عن ذلك، يتم توجيه اللوم إلى الضحية، وتحميلها عبء النتائج المترتبة على مقاومتها للظلم والاستبداد. وكأنّ هذه الضحية، التي رفضت الخضوع، وقالت "لا في وجه من قالوا نعم"، تصبح مسؤولة عمّا حلّ بها وبمجتمعها من دمار، وتتعالى أصوات لوم الضحايا بدلًا من ملاحقة مجرمي الحرب وتسمية الأشياء بمسمياتها. هذا الانحراف الأخلاقي والفكري يضعنا أمام إشكالية عميقة تتطلّب إعادة نظر شاملة في كيفيّة التعامل مع تضحيات التحرّر.

فهذا الانحراف يشير إلى أزمةٍ عميقة في فهم المسؤولية الجماعية، فالتضحيات لم تكن يومًا مجالاً للشفقة أو التباكي للمخلفين، بل هي نداء لتحمّل مسؤولية مواجهة الظلم، وعلى أولئك الذين اختاروا الحياد بدلًا من الانحياز للحق، ولمز المقاوم والصمت عن المجرم الحقيقي، يجب أن يدركوا أن صمتهم ليس حيادًا وانتصارًا للضحايا، بل تواطؤ في الجريمة، وتحويلهم الأضواء عن الأسئلة حول مسؤولية الاحتلال وداعميه نحو الاسئلة حول جدوى المقاومة ومدى استحقاق الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون يوميًا، ليس سوى تبييض لصفحة القاتل السوداء. 

لا أدري لماذا تتجاهل بعض الأصوات أنّ تضحيات غزّة لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023، ولم تكن وليدة لحظة زمنية محددة. بل هي جزء من تاريخ طويل من المقاومة ضدّ استعمار إحلالي يسعى لاقتلاع الهوية وسلب الأرض وإلغاء الإنسان. هذا الاحتلال الذي يستمر منذ ثمانية عقود لم يجلب سوى المزيد من المعاناة، ليس فقط للفلسطينيين، بل للمنطقة بأسرها، ودعوات الانبطاح والتعايش مع المغتصب لم تكن سوى محاولات بائسة لتجميل وجه الاحتلال والاستبداد، الذي استمرّ بالتمدّد كسرطان خبيث يحرق الأخضر واليابس.

الحرية لم تكن يومًا سؤالاً عن جدوى التضحيات، بل هي التزام أخلاقي بمواجهة الظلم حيثما كان

وفي ظلّ هذا المشهد المأساوي، تستمرّ هذه الأصوات في تجاهل حقيقة أنّ الحرية لم تكن يومًا سؤالاً عن جدوى التضحيات، بل هي التزام أخلاقي بمواجهة الظلم حيثما كان. وبدلًا من الهروب من المسؤوليات الأخلاقية، لا بُدّ أن نطرح السؤال الجوهري: كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤوليته تجاه هذا الواقع؟ إنّ تجاهل المحاسبة وملاحقة المعتدي ليست خيارًا، بل جريمة جديدة بحقّ الضحايا والناجين. فالعالم بحاجة إلى اتخاذ خطوات ملموسة، بدءًا من تفعيل المحاكمات الدولية لجرائم الحرب، وصولًا إلى بناء حملات حشد وتأييد تضغط على القوى العالمية لتبني مواقف عادلة تجاه القضية الفلسطينية، والعمل على إنهاء الإحتلال.

لا يمكن لشيء في هذا الكون أن يعوّض طفلاً عن فقدان أمه، ولا والد عن دفن أشلاء طفله، ولكن التباكي على التضحيات ولوم الضحية بدلًا من توجيه سهام المحاسبة نحو المجرم الحقيقي ليست سوى تنكيل جديد بالضحايا وإهانة لهم. فتضحيات الشعوب لا يمكن أن تذهب هباءً إذا ما قرّر العالم الوقوف بجدية إلى جانب الحقِّ والضحية في وجه الظالم. 

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.