غزة... الآن يمكنك البكاء!

14 يناير 2025
+ الخط -

لا أتخيّل كلّ تلك الجراح بلا مساحة للحزن، وكلّ ذلك الفقد دون فرصة للشعور به، وأيّ قلب يتحمّل أن يُغتال فلا يصرخ، وأن يُبتلى فلا يصيح، وأن تنهدّ قواه فلا يخرّ على ركبتيه، ويقول: يا رب؟ أيّ إنسان يقدر على أن يظلّ أحبابه في عداد المفقودين بين الركام لعامين ولا يملك الزمان ولا المكان ليحاول انتشالهم؟ فلا تكون له فرصة سوى للملمة العظام، وهو لا يعلم أيّ هيكل ذاك الذي بين يديه، أيبكي على أمه أم أخته، على أبيه أم جده، وكيف تكون الصورة الأخيرة في ذهنه صورة للحمه ودمه، ولكن من دون لحم ودم؟

توجّع الغزيون بما تنوء به الجبال وتضيق به رحابة السماوات، أصيبوا بآلام لو اجتمع البشر عليها منذ بدء الخليقة إلى اليوم لما كفاهم الصراخ إلى يوم القيامة من شدّتها وعمقها، رأوا من البلاء ما ضرب به نبي الله المثلَ فيمن سبق ليصبر الصحابة، عن قوم كانوا يُنشرون بالمناشير، ولم يكن أهل غزّة يُنشرون وحسب، أو ينشطر أولادهم إلى نصفين فقط، وإنما يتناثرون في الأجواء إربًا إربًا، وعقلة عقلة، وذرةً ذرة، فتكاد لا تعرف الشهيد إلا من خرقة بالية معلّقة على أحد الجدران، والبقية في أكياس سوداء! أيّ إنسان في ذلك الوضع يُحرم ولو من إمكانية الصراخ ودفن من يحبّ والجلوس بجوار قبره حتى يموت؟ 

توجّع الغزيون بما تنوء عنه الجبال وتضيق به رحابة السماوات

اجتمعت قوى الأرض كلها عليهم، فلم يمهلوهم ولو ساعةً يدفنون فيها ذويهم، أو يبكون فيها حياتهم التي انقضت وأعمارهم التي راحت وأهليهم الذين فارقوا وبيوتهم التي دمرت وأمعاءهم التي انكمشت وحلوقهم التي جفت. ولم يتوقف الأمر عند الحرمان، وإنما الحرمان من التعبير عن الحرمان! فكأن الدنيا تستكثر عليهم الحزن، حتى الحزن تحوّل في ظلّ الإبادة إلى سلعة نادرة، لا تشتريها ولو بعمرك، لأنّ الحزن سينتهي عندك حين تموت، قبل أن تعبر عنه، لكنه لا يفنى، وإنما يورث لمن بعدك متراكمًا، سيستقبلون الإرث موزّعًا عليهم، وكلما توزّع عليهم زاد أكثر، ولكن يخزنونه في قلوبهم، حملًا ثقيلًا، وأمانة عظيمة، حتى يمكنهم صرفه.

وها هي اليوم فقط، تأتي تلك الساعة المُنتظرة، تضع الحرب أوزارها، ويذهب كلٌّ إلى ركامه يتفقده، سيتطلب الأمر جهدًا كبيرًا في التعرّف إلى الطرقات والأحياء، وتقسيم المساحات إلى سابق عهدها، بعدما مُحيت المدينة كاملة عن وجه الأرض، وحينها سيجدون ما تمنوا ذات يوم أن يجدوه، وما لم يتمنوا أن يجدوه، معًا، بقايا أحبابهم في بقايا ديارهم، وسيزور الكثيرون المقابر، ليس في أماكنها المعروفة، وإنما على الأرصفة، أو في ساحات المشافي، تحت لوحات كرتونية ممزّقة، مكتوب عليها الاسم أو العلامة، ستنتهي حرب غزة في ذلك الحين، وتبدأ حروب لا يعرف عنها أيّ أحد شيئا، وانفجارات لا يسمع لها أحد صوتا، في داخل كلّ قلب، في غزّة.