عن مسألة الألفاظ الخارجة!

عن مسألة الألفاظ الخارجة!

05 ديسمبر 2021
+ الخط -

يلتقيني في الطريق قارئ كريم فيعاتبني بعد السلامات والمحبة على قصة "آس مان" التي نشرتها هنا منذ فترة، ويسألني: أليس عيباً أن نذكر لفظ مؤخرة في الصحف؟ قلت له: ما العيب في ذلك؟ ألسنا في أزهى عصور البنية التحتية؟ يضحك ثم يقول لي: يا أخي ما فيش فايدة معاك، الحلو ما يكملش. وبعد أن قررت ألا أذكره بأنني لم أقم بنشر اللفظ الشعبي كما هو، ليس ترفعاً مني، ولكن لأن إدارة الصحيفة لن تسمح بنشره، اكتفيت بسؤاله عن سر حرصه على كمال الحلو، مع أن الكمال لله وحده، فاعتبر أن المناقشة لم يعد لها جدوى، وتركني ومضى يائساً مني.

قارئ آخر أرسل يحييني على مجموعة قصصية لي أُعجب بالكثير من قصصها، لكنه نبهني إلى أنني لن أدخل تاريخ الأدب برغم ذلك، لأن تجاوزاتي اللفظية جعلته يمنع زوجته من قراءة المجموعة، وأنا سألته هل لديه عيال؟ وعندما أرسل إليّ صورهم قلت له: "ربنا يخلي.. بس غريبة كنت أظن أن الذي ينكسف من بنت عمه ما يجيبش منها عيال"، ولم يتقبل دعابتي الثقيلة بصدر رحب.

قارئة كريمة من دور والدتي أرسلت لي على الإيميل الذي علمها أبناؤها مؤخرا كيف تدخل عليه رسالة عتاب لأنها تعشمت فيّ خيرا فاشترت مجموعة قصصية لي ووجدت فيها بعض التعبيرات العامية الشعبية اللي "ما تصحّش" من وجهة نظرها، وأنا كنت أذكى من أن أناقشها، ربما لأنني تعلمت ذلك الدرس من تجربة المناقشة مع أمي حفظها الله، فاكتفيت بوعدها أنني "مش هاعمل كده تاني".

إذا وضعت كل هذه "الوقائع"، إلى جوار الاتهام الكلاسيكي لي في مقالات الكثير من النقاد بأنني "أفسدت وجدان المصريين وخربت القاموس اللغوي للشباب"، وهو اتهام أحفظ نصه المتكرر عن ظهر قلب، لأنه يعطيني أكثر مما أستحق، ويفترض في قوة أسطورية لا أمتلكها، فضلاً عن أنه يتيح لي أن أنضم إلى قائمة من سبق أن اتهموا بمثل هذا الاتهام من أساتذة الفن الذين أروح أنا فين منهم أو جنبهم، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر:

 1ـ الأستاذان نجيب الريحاني وبديع خيري على سبيل المثال لا الحصر، واقرأ إذا لم تكن تصدق كتاب (حياتنا التمثيلية) لمحمد تيمور، وما كتبه أستاذنا الكبير يحيى حقي من هجوم شرس على الريحاني، أيّده فيه بعد ذلك الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور.

 2ـ الأساتذة فؤاد المهندس وشويكار ومحمد رضا وبهجت قمر وعبد الحي أديب وكافة صناع أفلام الهلس الستيني السبعيني، واذهب إلى أرشيف المجلس الأعلى للصحافة لتقرأ في مقالات النقاد كلاماً لو كان عليه جمرك لتم إعدام أشخاص أولئك الأساتذة قبل أفلامهم.

 3ـ الأساتذة حسن الإمام ومحمد مصطفى سامي وسعد الدين وهبة، ودونك موسوعة نجيب محفوظ والسينما التي أصدرها الدكتور مدكور ثابت مشكورا أيام رئاسته لأكاديمية الفنون، اقرأ بها ما كتبه كبار النقاد عن أفلام مثل زقاق المدق وبين القصرين وقصر الشوق التي قدمت في نظرهم حوارا جنسيا منحطا ومثيرا للغرائز ومهيجا للجماهير.

 4ـ الأساتذة عادل إمام وسعيد صالح وحسن مصطفى ويونس شلبي وجلال الشرقاوي وعلي سالم وسمير خفاجي وكافة أفراد فرقة الفنانين المتحدين، وأظن أنك لست محتاجاً لأن ترجع إلى الأرشيف لتقرأ ما تمت كتابته عن صناع مسرحيتي (مدرسة المشاغبين) و(العيال كبرت)، فلا زلت تجد كل تسع دقائق تقريباً من يتهمهم في مقال أو تدوينة أو برنامج بالبدء في إفساد الأجيال وخراب التعليم وتصدع الأسر، وما إلى ذلك من التهم التي نعشق ترديدها دونا عن غيرنا من الأمم المتحضرة التي لم يتورط عقلاؤها في اتهام الأفلام والروايات مهما جمحت وشطحت بإفساد أجيالها.

هل يكفي حشد هذه الأسماء ولو كان ضمن سياق لكي يكون دفاعا عما أُتّهم به؟ بالطبع لا، لكنني لا يمكن أن أضيع الفرصة في الإشارة إلى أن جميع الكتاب والنقاد الذين تورطوا في مهاجمة الأساتذة السابق ذكرهم، مسؤولون في وجهة نظري مهما حسنت نواياهم عن تكريس المفاهيم الخاطئة في التعامل مع الفن، بدلا من توعية الناس بأنه لا تصح محاكمة الجملة الفنية التي تراها خارجة أو بذيئة أو نابية بعيداً عن السياق الفني الذي وجدت فيه، وكونها معبرة دراميا عن الشخصية التي نطقت بها أم لا، دون أن نفتش في النوايا، ونُحَكِّم انحيازاتنا المسبقة التي تجعل بعض نقادنا الكبار يهاجمون بعض الجُمَل والعبارات في فيلم لا يعجبهم كاتبه، بينما عندما ترد هي أو أفظع منها في فيلم لمن يحبونه يعتبرونها جرأة مبهرة وفتحاً فنياً، والأرشيف موجود لمن أراد.

أعلم أن كل هذا الكلام "الفني" لن يأكل ببصلة مع من يتعاملون مع الفن تعاملا أخلاقيا لا أستطيع أن أقاوح معهم فيه وأجبرهم على نبذه، فقط سأهديهم ما كتبه الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينوري، وهو من هو علما وفقها وعطاءً، ولذلك اخترته دوناً عن غيره من أعمدة تراثنا العربي والإسلامي الذين يهيل عليهم بعض المتشددين الغبار، حيث يقول في مقدمة كتابه العظيم (عيون الأخبار): "وإذا مر بك حديث فيه إيضاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع على أن تُصَعِّر خدك، وتُعرِض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تُؤثِم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب".

طيب، بالله عليك، أرأيت كيف أوصلنا فهمنا المغلوط للإثم لأن نقبع في مؤخرة الأمم. 

...

كتبت هذه السطور قبل 15 عاماً، وأجدني مضطراً لإعادة نشرها رداً على رسالة عتاب من قارئ كريم أغضبته بعض الألفاظ التي نشرتها في روايتي (أم ميمي)، مع أنني نشرت في صدرها تنويهاً يقول بالنص: "جميع الشخصيات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ الواردة في هذه الرواية لا علاقة لها بواقعنا الذي هو ـ كما تعلم ـ أرقى وأطهر وأجمل من أن ترد فيه مثل هذه الشخصيات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ، لذا لزم التنويه".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.