عن قراءة الأدب

عن قراءة الأدب

12 اغسطس 2022
+ الخط -

خُلق الإنسان من عجل، ترانا بني الإنسان في شغل دائم لا نكاد ننهي عملاً إلّا ونشرع في آخر، كأننا والزمان في سباق دائم فلا هو ينسحب ولا نحن نتعب. إذا أردنا اختصار حيواتنا في كلمة لقلنا: الاستنزاف. نستنزف كل ذرةٍ في أجسامنا، وكل بنت شفة تجري على ألسننا، وكل ذكرى في كتب قلوبنا، وما نتيجة هذا كله؟ التيه، فلا نفساً أحيينا، ولا فؤاداً ظمأ بالحب روينا، ولا رسالةً ساميةً أدّينا. إذن لماذا لا نفكر في الخروج من هذه القوقعة المغلقة بكل مُحكَم؟

ليس من المبالغة والشطط الادّعاء بأن الأدب يرشدنا إلى الطريق الذي زغنا عنه في رحلتنا الأرضية هذه، فنحن حينما نقرأ الأدب نهرب من ازدحام المواد إلى رحاب المعاني، من وحول الطباع الحيوانية إلى سمو الأفكار الروحانية، نخرج من قوقعتنا لنلج في بحر الإنسانية.

ما الذي يعلمنا إياه الأدب؟ الأدب لا يعلمنا وإنما يضع بين أيدينا أدوات التعلم، فالأدب يدور حول الخيال المثالي كدوران الأرض حول الشمس، ويدور حول توليد المعاني كدورانها حول نفسها، وهو يخبرنا، وببساطة، أن هناك حياة فاضلة لم يُقدّر للبشر أن يبنوها ويحيوها، وأنّا حينما نسعى لحياة أفضل فإن غاية ما سنصل إليه هو ذاك الخيال الذي يقدمه لنا الأدب، باختصار الأدب هو الشخص المنقذ من كهف سقراط.

والأدب هو قطب الرحى في التعارف بين أطياف البشرية، ومن أصدق أوصافه أنه مرآة الشعوب. ستقرأ في كتب التاريخ عمّا فعلت الدول، وستقرأ في كتب الفلسفة عمّا فكره به الفلاسفة، وستقرأ في كتب العلوم عمّا وصل إليه مجتمع من تقدم، ولكنك لن تدخل إلى باطن المجتمع وتسبر غوره وتضع يدك على جراحه أو تتلمّس أفراحه إلا عن طريق الأدب، فهو قصة خرجت من رحم مجتمع اكتسبت صفاتها منه، كبرت وكتبت نفسها لك كنتيجة طبيعية لعلاقة متماسكة، فإما أن تَصْدق وإما أن تَصْدق ولا خيار آخر لها.

قد نجهل الكثير عن روسيا، قد نجهل إيفان الرهيب أو بطرس الأكبر، وقد نجهل أين تقع موسكو أو سانت بطرسبرغ، وقد نجهل متى ظهر الاتحاد السوفييتي ومتى سقط، ولكن أحداً منا لا يجهل فيودور دوستويفسكي أو ليو تولستوي ولا أعمالهما الخالدة.

لماذا نذهب بعيداً؟ لقد كُتبت مئات الكتب عن تاريخ مصر الحديث، السياسية منها أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ولكن أحداً لم يستطع أن ينقل واقع معيشة المصري ونمط حياته وتفكيره وقيمه وعاداته وأفراحه وأحزانه كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته، الثلاثية تخبرك كيف لبس ذاك المجتمع، وكيف كان يقضي أوقاته، وكيف أكل، وكيف شرب، بل وكيف كان يرى نفسه، وما الذي كان يعيش من أجله.

يُقال أن الفلسفة الوجودية انتشرت عن طريق الروايات، وهذا شيء لا يُستبعد أو يستغرب، فالأدب هو شجرة الأفكار، التي إن مررت بها فإنك إن لم تقطف من ثمارها، فإنك ستشم رائحتها، وبذا فأنت إما آخذ أو معجب أو متذمّر. كثير من الروايات تُكتب لإيصال الأفكار قبل التفكر حتى بالصنعة الأدبية أو الاستمتاع بالحبكة الروائية، وقد تكون الأفكار مؤدلجةً أو مسيّسة، وفي هذه الحال يصلح ما يسميه البعض "عبث الرواية"، ومع ذلك، فإنها في المقابل قد تكون غاية لإيصال فكر يسمو بالإنسان ويفرض عليه بقوة الكلمة المنمّقة إعادة التفكير بما جعله من أولوياته وهو أحق أن يكون من مستهجناته.

لقد أحيت رضوى عاشور الموريسكي بعد أن ظلمه التاريخ، ولفت أمين معلوف الأنظار إلى ليون الأفريقي أو حسن الوزان بعد أن كان خاملاً لا أحد يعرف عنه شيئاً، وجعلت إيليف شفق جيلاً من الشباب يقرأ عن جلال الدين الرومي، وأعاد أيمن العتوم الاعتبار لعمر بن سعيد الفوتي، بل يُقال إن شخصية هاملت بقيت ثاني أشهر شخصية في أوروبا بعد المسيح لفترة طويلة من الزمن، ومن هو هاملت؟ هو شخصية تاريخية اخترعها شكسبير في أحد أعماله. هل هناك قوة تستطيع التأثير في الناس كقوة الأدب؟

 

كان الأدب الأُنْس الذي يلجأ إليه كل من ضاقت به الحيلة وانقطعت عنه أسباب الانشراح، فلذلك نقرأ عن كثير من المرضى النفسيين العظماء –وما أكثرهم– أن الأدب كان صديقاً لهم. ومؤخراً بدأ الأطباء النفسيون يصفون الكتابة –الأدبية تحديداً كالخواطر والمذكرات– كدواء لمرضاهم لتفريغ ما يشغل بالهم ويكدّر خاطرهم. وبالرغم من التنظير لهذا الأمر علمياً في العصر الحديث، وإلى حد السخافة فيما يُعرف بـالتداوي بالرواية، إلا أن هذه العادة السليمة كانت قديمة قدم التاريخ.

في العصور القديمة وُجدت منحوتات صخرية لامرأة نحتت عليها خاطرة شاكية فيها من ظلم الدولة وسوق ابنها إلى حرب لا تهدأ. وكان الشعر والكتابة مؤنسَين لأبي العلاء المعري في محبسيه، وبهذا تنطق سيرته، فهو عندما حبس نفسه في بيته آثر العلم والأدب عن أي جليس آخر، وفي محبسه الاختياري ذاك خرج لنا بتحفتيه: رسالة الغفران، وديوان اللزوميات، العملَين اللذَين يعتبران من أجمل ما كُتب بالعربية. وقبله كان المتنبي رجلاً قلقاً، وكان في سعي دائماً لصنع مجده الخاص، ولكنه بُلي بمن لم يقدّره حق قدره، فكان كثير اللجوء إلى الشعر إما شاكياً الزمن وإما منتقداً له، فهو القائل:

كفى بك دائماً أنْ ترى الموتَ شافياً...وحسبُ المنايا أن يكُنَّ أمانيا

وهو القائل:

وأطلبُ مِن زمني ذا أن يُبلّغَني...ما ليس يبلُغُه مِن نفسِه الزمنُ

وهو في حالتيه كان يهرب من ضيق الحيلة إلى سعة اللغة.

قد نستمع لشخص يتكلم ويهذي كثيراً، ويطول حديثه في محاولته إيصال معنى من المعاني الكامنة في نفسه ولكن لغته لا تسعفه في أدائه كما يتصوره، وتراه يردد عليك: "آه، أعتقد أني لم أستطع إيصال الفكرة كما ينبغي"، وفي الوقت ذاته إذا حدّثته عن الأدب وقراءته فسترى علامات الضجر ظاهرة على قسمات وجهه وهو يقول -بثقة لا تعتريها شائبة-: "إنه لا يُعلّم شيئاً، إنه كلام فارغ لأشخاص فارغين، تسلية في تسلية، وقانا الله شر إضاعة الأوقات بلا طائل!". وإن لم تكن قراءة الأدب لمثل هذا فلأي شيء تكون؟ إن حياتنا مع أنفسنا تدور حول أفكارنا، وعلاقتنا بالآخر تحكمها الأفكار، وكل جزئية في حياتنا يُسيّجها الفكر، فما أبأسنا إن نحن تخلينا عن تطوير أفكارنا وكيفية التعبير عنها!، وقديماً قالت العرب: جمال المرء في فصاحة لسانه. وعن نفسي أحدث فإنني كثيراً ما ألتقي بشخص يعجبني منه سمته ووقاره، فإذا ما تكلم تمنيت لو بقي ساكتاً. وأظنني معذوراً في ذلك، فبيان الإنسان وكلامه هو الماء الصافي الذي يعكس ما بداخله، وقديماً قال زهير بن أبي سُلمى:
 

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ     فلم يبقَ إلّا صورةُ اللحمِ والدمِ

محمد درويش/ فيسبوك
محمد درويش
كاتب سوري، خريج تاريخ من جامعة السلطان محمد الفاتح، ويدرس الإعلام. مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة والدين، ويعمل في تحرير الكتب، ومدمن للكتابة، لديه عدة مقالات منشورة عن تاريخ سوريا الحديث.

مدونات أخرى