عن عيد الأم

عن عيد الأم

07 ابريل 2021
+ الخط -

عناوين كثيرة باتت تذوب مع مرور الوقت، أراد منها مبدعوها أن يعلنوا صراخهم.. ويثروا أفكارنا بمشاركاتهم "الهابطة" في الاحتفال بعيد الأم الذي يكرّر نفسه مع كل عام في مثل هذه الأيام من السنة.

وما يكتب، اليوم، وبصراحة من على منابر شبكات التواصل اﻻجتماعي، ومثالها "فيسبوك" وغيرها، بصورة خاصة، مجرد مشاركات لإشراك العامة، من أجل الفوز بتعليق، أو بإعجاب صديق. وما نقرأه اليوم، بات خاوياً ﻻ يسمن وﻻ يغني من جوع!

صور تبحث عن رضا عمر وزيد من الناس، ووقفة قصيرة مع ما ينشر من بوستات، صارت تخلو من أيّ فائدة، الهدف منها المشاركة في النشر والتسابق المحموم نحو الذات الأسمى.

ومثالنا في ذلك عيد اﻷم، الذي فتح المجال واسعاً أمام الغالبية من أصدقاء وأحبّة ومعارف ليدلوا بدلوهم مفاخرين بأمهاتهم، وكأنهن بحاجة إلى حنانهم ولطفهم، ولم تغب إﻻ القلّة منهم في الإطراء والمديح لأمهاتهم.. والمؤسف أنّ الكثير ممن قرأت لهم ليست له أي علاقة وجيهة تربطه بما تناوله، وإنما لمجرد المشاركة ليس إﻻ.. في الوقت الذي نجد فيه أنّ هناك الآلاف ويزيد من الأمهات يعشن المعاناة في أحلك ظروفها، من قبل الولد الذي ترك أمه جانباً وأهملها عرضة للحاجة والحنان، وللأسف، وتركها وحيدة تلاقي هموم الحياة ومشاكلها، ولم يقم بتقديم يد المساعدة لها وحمايتها من جراح الحياة وطعناتها، وحمل ولو جزء بسيط من معاناتها، بل إن الغالبية منهم تنكروا لأمهاتهم ولجهدهن وعطائهن، وتناسوا ما سبق أن بذلن حيالهم الغالي والرخيص كرمى لعيونهم حتى أصبحوا رجالاً، وشواربهم تغطي ضوء الشمس!

وحين يذكر عيد الأم تقفز إلى ذاكرتي بعض الصور التي حفظتها سنين طويلة لأنها تركت أثراً لا يمحى، وأقدمها في الذاكرة، طيف تلك السيدة العجوز التي صادفتها ذات صباح في إحدى حدائق فيينا وكنت أنهل من جمال الطبيعة الآسر، وسكونها الذي يغريك بالبحث عن سامر عسى وعل أن تمضي بصحبته بعض الوقت، وإن كان قصيراً في شوارعها النظيفة، وطيب هوائها العليل وطيفه الذي يثلج الصدر، وفي صورة متفردة لأبنيتها المتلاصقة بعضها ببعض.

الصورة الأخرى التي ظلت محفورة بذاكرتي تلك المرأة السورية التي تجاوزت السبعين من عمرها، والتي تعيش مع أولادها الأربعة في فقر مدقع، وحاجة لم يكن بالإمكان تجاوزها

كانت تجلس وحيدة في ركن منعزل تنثر الحبّ للحمام الذي يلتمّ إليها أسراباً، رحت أتأمل هذا المشهد الإنساني النبيل، وقد ذكّرني بقول بشار بن برد: (يسقط الطير حيث ينتثرُ الحَبُّ، وتُغشى منازل الكرماء)، وقد سرّت العجوز باهتمامي بها وبما تفعل، فدنوت منها فناولتني حفنة من الحَب لأشاركها عَطاءَها للحمام الذي فرح بهذا العطف.

وقادني الفضول إلى سؤالها عن أسرتها، فجاء جوابها بصوتٍ هادئ حزين بـ:(أن لها ثلاثة أبناء ولكنها لم ترهم منذ سنين طويلة، قلت هل يعيشون بعيداً عن فيينا؟ قالت لا، إنّهم في المدينة ولكن لكل منهم عمله وانشغاله). فصمت ولم أشأ التعليق كي لا أذم لها أبناءَها العاقّين، ولكنها سرعان ما نظرت إليَّ بأسى مكبوت معلقة: "الحمام أجمل منهم، أنا لم أعد وحيدة منذ أن تعرّفت إلى الحمام، أستيقظ لآتي إليها وأطعمها كل يوم، فهي تعرف موعد وصولي، إنها وفية وتُحبني".

وفي إحدى زياراتي للولايات المتحدة، أواخر التسعينيات، كان عليّ أن أغادر الفندق فجراً، فمضيت إلى المطعم لتناول الفطور، فلم أجد سوى الخادمات يُنظفن المكان قبيل استقبال الزبائن، وقد أثارني كونهن فوق السبعين من العمر، ويبدو على إحداهن الإرهاق والمرض، وقد استوقفتها لأسألها بفضول صحافي، عمّا يدعوها إلى العمل في هذه السن؟ فقالت إنها مضطرة كي تنفق على نفسها، قلت: أليس لك أبناء؟ قالت عندي ولدان ولكنني لم أرهما منذ زمن، وكأنها أدركت سؤالي الثاني، فاستبقتني بالجواب إنهما يعيشان في فرنسا وهما ثريّان. وتابعت السيدة العجوز تنظيف المطعم لكنها رأتني واقفاً متسمّراً أتابعها وفي عيني إشفاق عليها، فالتفتت إلي وقالت أظن أنك عربي، قلت نعم، أنا من سورية، رسمت على وجهها ابتسامة حزينة وقالت: لقد زرت سورية في شبابي، وأعرف أنكم تقدسون أمهاتكم. قلت وقد ازددت فضولاً، هل لزميلاتك أيضاً أبناء؟ قالت نعم، ولكنهن مثلي، لم يروا أبناءهن منذ زمن بعيد.

وقبل عام تعرّفت في برلين إلى سيدة مثقفة كبيرة هي فوق السبعين من العمر، كانت تناقشني في الظروف القاسية التي تعانيها المرأة العربية، وحين بالغت في تصوير المعاناة قلت: إنَّ ظروف المرأة العربية ليست قاسية إلى الحد الذي تتصورين، فحسب المرأة العربية أنَّ أبناءها يَجلّونها أفضل بكثير مما تَحظى به الأمهات في الغرب، قالت: هناك أبناء محترمون في الغرب يعنون بأمهاتهم، قلت ألك أبناء؟ قالت عندي ولد وحيد، وعلاقتي به ممتازة، إنه يرسل إليّ بطاقة معايدة في عيد الميلاد كل عام، ولقد زارني قبل عامين، قلت أين يسكن؟ قالت إنّه جاري.. يسكن في الحي ذاته الذي أسكن فيه ولكنني أقدر ظروفه، فهو مشغول بحياته.

والصورة الأخرى التي ظلت محفورة بذاكرتي تلك المرأة السورية التي تجاوزت السبعين من عمرها، والتي تعيش مع أولادها الأربعة في فقر مدقع، وحاجة لم يكن بالإمكان تجاوزها، وكان لها ولد سبق أن هاجر إلى بلاد أوروبية مع أسرته، كما حدث ذلك مع غيره من أبناء جيله نتيجة الحرب والدمار اللذين شهدتهما سورية، فما كان من الأم إلّا أن تلجأ، وعلى استحياء، إلى التواصل مع ابنها ما بين فترة وأخرى، ويلح هو عليها بالتواصل، وتذكره بإرسال مبلغ مالي يساعدها على فك أزمتها ويعينها على العيش، إلّا أنها كانت تأبى ذلك خوفاً من إلحاق الأذى به لمجرد الاتصال به واشعاره بحاجتها إلى مبلغ من المال يخفف عنها مأساتها ويحل بعض مشكلاتها، وتقوم بدورها بمساعدة أبنائها البقية الذين يقيمون بالقرب منها لعدم قدرتهم على تأمين معيشتهم بمفردهم بسبب الغلاء الذي أصاب الجميع في مقتل، بما يبقى من ذلك المبلغ البسيط الذي يدفع به ابنها كل شهر.. ورغم ذلك كانت تفضل العيش بإهانة وذل، وعدم الإلحاح بالتواصل مع ابنها كي لا تشعره بالحاجة إلى المال، وهذا ما يدفعها للتهرب من التواصل معه، أو التحدث إليه رغم إلحاح ابنها الشديد بالاتصال به لمجرد أنها احتاجت إلى أي مبلغ يسد جزءاً من رمقها، وحاجة أسرتها مكسورة الجناح التي لم تعد تقوى على تأمين إيجار البيت الذي تقيم فيه بعد أن كانت هي وأسرتها تعيش في دار سكن واسعة كانت تحسدها الغالبية عليها!

وتلك الأم السورية التي التقيت بها مرة، وتعيش في كنف ابنها الوحيد الذي لم يكن يبالي بتقديم يد المساعدة لوالدته والاهتمام بها، باصطحابها إلى الطبيب لمعالجة أسنانها، متناسياً ركضها الدائم أمامه وهو طفل صغير، وفي ريعان الشباب، مفضلاً جمع المال على مساعدة والدته التي لازمت الفراش وبقيت تعاني من الأمراض تلو الأخرى، ورغم ذلك فإن إلحاحها الشديد لم ينفع في بث الرأفة به رغم إمكاناته المادية الجيدة وتطنيشه في تقديم يد المساعدة لوالدته في التخفيف من معاناتها.. ففضلت، مع مرور الوقت، السكوت وعدم الإفصاح عن وجعها الذي أخذ حيزاً كبيراً من حياتها، واستمرت معاناتها سنوات بدون أخذ الموافقة في السماح لها بزيارة الطبيب المختص لتخليصها مما هي فيه، وظلت هكذا إلى أن وافاها الأجل!

طافت بذاكرتي قصة الأرملة التي زارت علي أمين ومصطفى أمين في مكتب جريدتهما (الأخبار) في القاهرة، لتشكو إليهما ما تعانيه من جحود أبنائها الذين ربتهم أيتاماً حتى اشتد ساعد كل منهم فإذا هم يرمونها، يومهاً دعا الكاتبان الكبيران إلى تخصيص يوم للاحتفال بالأم العربية للتذكير بفضلها، كما يفعل الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة التي أقر فيها الكونغرس عام 1913 تخصيص يوم يكون عيداً للأم، وكان الاحتفال به قد بدأ قبل ثلاثة أعوام في أوكلاهوما، وقد استجابت مصر لدعوة الكاتبين، فاحتفلت بيوم الأم عام 1956 ثم تلتها الدول العربية الأخرى واختارت يوم بدء الربيع عيداً للأمهات، مع أن وفرة من الكتّاب رفضوا أن يُخصص يوم واحد فقط للاحتفال بالأم، وطالبوا بأن يكون أسبوعاً، وبعضهم قال: ينبغي أن تكون حياتنا كلّها احتفالاً بفضل الأم، وأنا مع هؤلاء، نستقي جميعاً معنى الطمأنينة والصفاء من رضا الله ورضا الوالدين.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.