عن زمن البطولة ورجالها... وأشياء أخرى

عن زمن البطولة ورجالها... وأشياء أخرى

26 مايو 2021
+ الخط -

هي مجموعة من الأفكار والخواطر، جالت في صدري خلال الأسبوعين الماضيين، صورةٌ موجزةٌ عن هموم متابع لما يجري وأفكاره وخواطره، أورد بعضها تسجيلًا لتلك اللحظات الجليلة، وتأريخًا لتأملات خرجت من رحم الواقع، ومن أتون ملحمةٍ مباركة عظيمة، أثرت وأفرحت كل حرٍ على وجه هذه البسيطة.

(1)

يتردد قولٌ في كثيرٍ من الأوساط الثقافية أو الحركية بأن زمن "البطولة ولى ولم يعد"، تُقال أحيانًا في حالة من الركون إلى الواقع واليأس منه، وأن المعجزات البشرية لا يمكن أن تتحقق.

وتُقال أحيانًا أُخرى في سياق تأطير الجهود وعدم انتظار "المخلص" في زمن يكثر فيه المثبطون، وضرورة العمل الميدانيّ على أرض الواقع.. وعلى الرغم من تبريراتها المختلفة، ليست هذه العبارة دقيقة بكل تأكيد، فمن يُعاين ما يجري في الأمة منذ نصف قرن، وفي نحو العشر سنوات الأخيرة فقط، يعلم أن الأمة أنجبت سيلًا من الأبطال العظام، لم تُخلدهم قصائد الشعراء ولا كتب التاريخ، ونسيهم ربما الكثير من الناس، ولكن تضحياتهم ما زالت قائمة حتى اليوم، مهما حاول أعداء الربيع تشويهه ودفن نتائجه، يظلون شرارة مباركة لا تنطفئ، وباكورة تحرير الأمة من نير حكامها الذين يسومونها الفقر والتجهيل منذ سنوات طويلة جدًا..

لماذا الحديث عن الثورات، ولماذا الكلام عنها وقد خرجت الأمة من غمرة ملحمة كبرى، خاضها المجاهدون الأبطال في غزة، والمرابطون الأشاوس في القدس والأقصى؟

لأن الموقف الأخلاقي والشرعي لا يتجزأ، فمن يُناصر قضيةً لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون عدوًا للأخرى، فمن كان ماضيًا في ركب الربيع العربي لا يُمكن عقلًا ولا بداهة أن يعادي فلسطين ومقاومة أبطالها، ومن يخرج من رحم القضية الفلسطينيّة، وما سطره هذا الشعب من صمودٍ أسطوري طوال 73 عامًا، سيكون سندًا لهذا الربيع، وعضدًا لأبنائه. وأظن أن اللحظة اليوم تشبه بشكلٍ كبير تلك اللحظة المفصلية في عام 2011، فانتصار غزة والصمود في القدس، وانتفاضة أهلنا في 48، لحظاتٌ دقيقةٌ جدًا، ستُشبه في أثرها لحظة البوعزيزي، وميدان التحرير، والجماهير في بنغازي وطرابلس الغرب..

لكن صبر أهلنا وثباتهم دفع الجميع ليتعالوا على الجراح، ويرسخوا صورة النصر الذي يغيظ العدو ويقلق وجوده

(2)

عندما تكثر الأحداث في القدس المحتلة، وتشهد فلسطين تطوراتٍ في ميادين المواجهة والإثخان في العدو، يأخذني التفكير بعيدًا جدًا، فمن جهة أتفكر في حال هؤلاء، من يمسك الحجر أو يضع إصبعه على الزناد، ينتظر العدو ليطلق حمم غضبه في وجهه. أحاول أن أستشعر أحوالهم، وماذا يجيش في صدورهم، هم أهل الله وخاصته، يرون الموت أمامهم، فهم منه قاب قوسين أو أدنى، يلتحفون بمعانٍ سامية رفيعة، ويخوضون معركة لا حسابات لها، لا بالخسائر ولا بموازين القوى، هم نماذج حية لشخوص قرأنا عنهم في كتب التاريخ، أبطالٌ ومواقف، يؤوبون في الليل في حزنٍ وذهول، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا من الثلة المختارة، الذين التحقوا بالرفيق الأعلى، وانضموا إلى ركب الشهداء، ويعودون في اليوم التالي، ونفسهم تقول اللهم إنّا نَحنُّ إلى لقائك.

ومن جهة أُخرى، أتفكر في الثغرة التي أقامني الله تعالى عليها، وشرفني بها، وأسأل نفسي، كيف يمكن العمل البحثي أن يغطي ما يجري من أحداث، وكيف يُمكن اللغة استيعاب هذه التضحيات منقطعة النظير، وكيف يستطيع العمل البحثي إيفاء حقوق الآلاف من الأبطال، هل يُمكن عنوانٌ أو اثنان أو ثلاثة أن تؤدي الحق، وأن توصل الصوت، وأن تحلل الإنجاز وتضيء على مكامن الخلل، ليس في سياق الترف المعلوماتي، ولكن في سياق الرباط المعرفي، الذي يصل إلى أصحاب القرار ومحركي الجهات المختلفة، والقائمين على الاشتباك المباشر، وتصل المعلومة إلى مجتمعاتنا ليكون تضامنها ونصرتها ناجعين هادفين.

(3)

استمعت في واحدٍ من صباحات المعركة البطولية إلى نشيد قديم، أثار في نفسي الوجد والتحنان، لقد كان نشيد "نم في سلام" التي كُتبت بالشيخ الجليل الراحل أحمد ياسـين رحمه الله، ترنمت كلماتها، وتلك الصور الرائعة لواحدٍ من مجددي الأمة وعظمائها في القرن الماضي، وعندما سمعت المقطع الآتي:

يا من وقفت بوجه أقوى دولةٍ
وهزمتها دهرًا وأنت المقعدُ
اختارك المولى لأنك طاهرٌ
ولأن غيرك في النجاسة عربدوا

سرت في نفسي مشاعرُ لا أعرف كُنهها، ولم أستوعب حجمها، وأفكارٌ عن زرع ذلك الشيخ الجليل، الذي تجاوز مرضه وقدرات جسده الضئيل، وأسس واحدةً من أبرز حركات المقاومة في فلسطين والعالم، خواطر عن أبنائه البررة، عن الأطفال الذين كانوا يحيطون به ويتسابقون على تقبيل يديه، وهم اليوم من يقودون العمليات، ويقاتلون في الصفوف الأولى، عن صبره وجهده، الذي ما زال يانعًا، تعاهده أبناؤه وصحبه بكل صدق وتوكل، وحققوا ما عجزت عنه دول وشعوب.

لم تكن صورة الشيخ المؤسس غائبةً عن هذه الإنجازات المباركة، وتطور أداء المقاومة في السنوات العشر الأخيرة، وعمّا سطره المقاومون من إبداعات خلالها، وفي الجولة الأخيرة على وجه الخصوص. ومن تلك المعاني أخذت بالتفكير في "الضـيف" الذي سكن قلوبنا، وذلك "الملـثم" صاحب النظرة الثاقبة، والصوت الواضح الحازم، عن وعن.. إذًا هي تلك المرتبة العالية التي يضعها ربنا لعباده الصالحين، عن القبول في الأرض لمن يَثبت في زمن المِحنة، ويواجه في زمن الخذلان، ويصبر في زمن التضجُّر، ويتقدم في زمن التراجع، ويقول "القدس لنا" في زمن التواطؤ والتطبيع.. شهداؤنا في الصف الأول ومن الصف الأول، والمنتصرون على النهج نفسه... أما غيرهم ممن ولغوا في التنسيق وكذبوا وداهنوا وسالموا، سيكونون في قيعان مقززة، تلعنهم الأمة ويلعنهم التاريخ..

(4)

شهدت الجولة الأخيرة تفاعلًا منقطع النظير، على أرض الواقع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وفي قراءة لنموذجٍ واحدٍ من هذا التفاعل شهدته بشكلٍ مباشر، على أثر لقاءٍ حواري شبابي تناول الانتصار المهيب في غزة، وغيره من اللقاءات المتخصصة مع شرائح مختلفة، قدمت خلالها قراءة لمُجريات الأحداث في الأسابيع الماضية، وضمّت هذه اللقاءات حضورًا نوعيًا، ومما يمكنني تسجيله ما يأتي:

- تشوق مختلف الفئات وخاصة من الشباب إلى الاستزادة تحليلًا وعمقًا وفهمًا حول مجريات الأحداث في فلسطين المحتلة، وخاصة ما جرى في الأشهر الماضية في القدس المحتلة، وفي الأراضي المحتلة عام 48.

- التفاعل الرائع مع النصر في قطاع غـزة، وذلك الفخر العارم بهذا الإنجاز، والتضامن مع ما جرى من صمود وتضحية وإبداع وتفانٍ، وهو تفاعل متحرك، تُرجم عمليًا بانخراط الشباب في مبادرات عملية، وجمعهم للتبرعات لإخواننا في فلسطين.

- أهمية إيصال الرسائل حول حاجات أهلنا وطرق دعمهم ومناصرتهم بمختلف أشكالها الممكنة، وهي حاجة لنا لنقف مع إخواننا، قبل أن تكون حاجة لهم.

- تشغيب بعض "المتفيقهين" وتحوريهم النصر إلى مادة جدلية، ومبارزة إحصائية، وهذا ما دفع الشباب إلى السؤال والتثبت، ولكنها قضية بالغة الخطورة، وقدرة بعض من لهم جمهور على تحوير الحقائق، والدخول في زوايا جدلية، أحيانًا من منطلقات تُظهرهم حريصين على وحدة الصف، وإظهار الحق، ولكن مقاصدهم مختلفة تمامًا.

- أهمية تغليب لغة الحوار والهدوء مع بعض التفاعلات السلبية على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تلك المتصلة بتصريحات أو بيانات تمس اصطفافات داخلية في الأمة، وضرورة التعامل معها بموضوعية ومرونة، بما لا يدفع المستمع للانزلاق إلى جدليات لا تسمن ولا تغني من جوع.

- ما لمسته وما لمسه غيري من التعطش الكبير للمعرفة من مختلف العاملين، يؤكد على أهمية الاستفادة من الأوضاع الحالية، والتنبه لحالة التشوق والحب، والبناء عليها والاستفادة منها، في سياق تحريك قطاعات مجتمعية، أو إيصال المعلومات لشرائح جديدة. إذ يمكن أن تبرد الهمة لاحقًا، وينشغل الشباب وغيرهم بهمومهم اليومية وشؤونهم الحياتية، وهي كثيرة في ظل التطورات وأولويات المتابعة.

ختامًا، لم يكن الفخر والسؤدد والتضامن هي المشاعر الوحيدة، فكل حرّ في هذا العالم قد تألم لمصاب إخواننا، وبكى شهداءهم بطريقته الخاصة، ولكن صبر أهلنا وثباتهم دفع الجميع ليتعالوا على الجراح، ويرسخوا صورة النصر الذي يغيظ العدو ويقلق وجوده، في منطقة تُثبت كل حينٍ أنه كيان مقيت لا يُمكنه الاستمرار مهما امتلك من أدوات القهر والترويج والدعم الغربي.

ولم يكن التحرير أقرب إلى مخيلاتنا منه في هذه المرحلة، وبعد الانتصار في غزة نراه قريبًا جدًا، سيهوي صرح الاحتلال العنكبوتي، وتعود الأرض إلى أصحابها قريبًا. ليست كهانة أو عرافة، بل هي حقيقةٌ سنشاهدها عيانًا بإذن الله تعالى ومنّه وكرمه.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".