عن الحق في التغيير والتغيّر

28 يناير 2025
+ الخط -

نعم كلّ ما هو في الدُّنيا "مُتقلّب"؛ منطقك يتغيّر، عاطفتك تتبدّل، ملامحك التي يعرفك بها الآخرون قد تتغيّر وعقلك الذي ينمو مع تراكم الخبرات قد يتغيّر أيضاً. فتغيير الرأي أو الموقف من قضيةٍ أو شخص ما ليس عيبًا ولا جريمة، بل ربما عُدّ في مواضع فضيلةً وفطنة تستحق التنويه والإشادة، إذ يقول المثل الفرنسي: "الحمير وحدها لا تغير آراءها". أما الإنسان ما دام مُمَتَّعاً بعقله، فهو يُراجع بعضَ ما كان يرجّح صِحّته في وقتٍ من الأوقات، أو هكذا ينبغي أن يكون، وهذا من دلائل النُّضج الذهني والنشاط العقلي. المهم أن تكون هذه المراجعات قد استوَت على نار هادئة، واتَّصفت بنوع من التريُّث بعيدًا عن الضوضاء، وبعد أخْذ الوقت الكافي في التفكير، حتى يحقّق الشخص مبدأ الإعذار إلى النفس، بحيث يكون قد استوفَى عُذره تماماً وحصل لديه نسبة كافية للتحقّق من فساد الفكرة السابقة.
لكن في ظلّ ما نلاحظه من تقافز، يعجَب المرءُ حقيقةً من هؤلاء الذين ينتقلون من رأي إلى نقيضه، ومن موقفٍ إلى ضدّه، وفي الحالات كلّها يُعبّر عمّا استجدّ فيه أو لديه بثقة عالية، وغرور واضح، ومن دون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية ينبغي أن يدفعه إلى بيان أسباب تحوّله؛ ولا سيّما إن كان من الشخصيات التي ترتضي لنفسها أن تُساهم في النقاش العامّ والتأثير فيه... فما بالك إن كان يتبوّأ قيادة أو مسؤولية ما؛ فالبيان حينها أوجب وأحرى!

أما نحن العالقين في ثقافة ثنائية لا تحتمل سوى طرفي الإفراط والتفريط؛ إمّا المدح وإمّا القدح، وما دمنا نرزح تحت عبء التقديس ونراهن على القادة وليس على مبدأ المساءلة والمحاسبة، فلا ضمانة للتحرّر والنهوض ولا خروج من الأزمة؛ لأنه لا ضمانة  لإخلاص القادة إن لم تكن أحكامٌ متفّق عليها ونُسلّم لها هي الضابط لسلوكهم. فكيف يمكن أن نميّز ليونة الانتقال أو البراغماتية بين التكتيك والخيانة إذا لم يكن للقادة والشعوب مرجعية تحكم على سلوكهم، إن كان صواباً أو خطأً، وتحدّد إن كان القائد مخلصاً أو خائناً؟

عالقون في ثقافة ثنائية لا تحتمل سوى طرفي الإفراط والتفريط؛ إمّا المدح أو القدح

ليست المشكلة في أن يغيّر المرء رأيه، فالعاقل المتسم بالحساسية المعرفية والأخلاقية نزَّاع دائماً صوبَ البحث عن الحقيقة، ولا بدّ وأن يعانيَ قلقاً معرفياً مُضنياً.
وليست القضية أن يتناقض المرء أحياناً، فهذا من لوازم البشرية، وهو أمر لا ينفكّ عن العباقرة والذين قد يتعاطون الأمور بشيء من التناقض الغريب، وهو أمر يفرضه التفكير المستمر وتقليب النظر في المسائل وتكافؤ الأدلة والحيرة إزاء ذلك، إلا أنّ هذا شيء، والهشاشة والسيولة شيء آخر، فمهما ظلّ المرء يقلّب أنظاره، ينبغي أن يبقى ذلك على أسس طوّرها وأخذت من عمره وتجربته قدراً من الثبات.

إنما المشكلة في أمرين: الحدّة والثقة واليقينية في الحالتين، في الرأي ونقيضه، وعدم تفسير ذلك التحوّل، بالرغم من أنّ الذي يُساهم في الرأي العامّ مطالب بالتخفّف من ذاتيته لصالح الموضوع، وهو ما يحتاج اصطباراً على التواضع وقهراً للكبرياء، خصوصاً إن كان ممن يكثر الحديث عن "الأخلاق"، أمّا أن يبقى الأستاذ المعلّم في الحالتين مستخفاً في المرّة الثانية بمن يقول بالرأي الذي كان يقول به من قبل، بلا أدنى إشارة إلى أنّه هو نفسه كان يقول به، فهذا غش ظاهر يدلّ على خفّة عقل وطيش نفس. فكيف نقبل ذلك والرحمن الذي يقبل كلّ عباده وفتح لهم أبواب توبته على مصراعيها لِتجُبّ ما قبلها دون قيد أو شرط، استثنى ما كان متعلّقا بعلمٍ أو بيّنات، كتماناً أو تحريفاً، فاشترط مع التوبة الإصلاح والبيان.

العاقل المتسم بالحساسية المعرفية والأخلاقية نزَّاع دائمًا صوبَ البحث عن الحقيقة

نعم لا يكفي أن يتفضّل أحدهم بالتندّم... وعلى ذكر ذلك، فالندم حالة شعورية بعيدة عن منطق الشريعة، ولا تكاد تجري أيضاً على منطق العقل. أما بُعدها عن منطق العقل فلأن الندم يتضمّن حُزناً على فائت لم يكن ينبغي أن يفوت، أو حُزناً على فِعلٍ لم يكن يصحّ أن يُفعل، وفي كلا الاحتمالين لا يَحصُل الندم أوان الفعل والترك، بل يحصُل بعدهما بمدّةٍ غالباً ما تكون طويلة، بعد أن يكون الشخص قد حصَل لديه من النضج ومن التجارب الكثيرة ما يجعله في موضع الناقد لنفسه، والناقد بصير يرى من موقعه ما لا يراه الفاعل والمُمارس للتجربة، وإن كانا هما الشخصَ نفسه. وإذن، فهو يحكُم على تصرفات نفسه في وقتٍ آخر وبناءً على ظروف أخرى وملابسات مختلفة، وبناءً أيضاً على عقلٍ جديد اكتسبَه بالزمن والممارسة، فيُوقع الظلم على نفسه وهو لا يشعر.

وأما عدم اتّساقه وروح الشريعة، فلأن كلّ شيء بقدَر، والأمر كله لله، و"لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم"، قال ابن كثير رحمه الله: "أعلمناكم بتقدُّم علمنا وسبقِ كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها؛ لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، فإنه لو قُدِّر شيء لكان (ولا تفرحوا بما آتاكم)". 

وختاماً، إشارة قرآنية "ولو رُدُّوا لعادوا لِما نهوا عنه"، وهنا كلام كثير لأهل الكلام والفلسفة، وربما يفتح النار على أهل السياسة!