عن الحسد والحسّاد.. تجارب ومواقف
منذ أن وُجدت المجتمعات البشرية، والحسد يلاحق الناجحين والمبدعين كظلٍّ ثقيل، يغذّي التنافس غير النزيه ويزرع الشكوك بين الأواصر القريبة، وهي الصفة التي تجلّت عبر التاريخ ولم يسلم منها ومن الوقوع فيها حتى أكابر العظماء والمبدعين والعلماء.
وقد حكى ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر"، أمثالا ونماذج عديدة لفعل التحاسد بين العلماء. ولعلّ تجربة لسان الدين ابن الخطيب الوزير خير دليل على ذلك، وهو الأديب، والفيلسوف الفقيه، والطبيب، والمؤرخ، والشاعر، الذي أرداه حسد الناس قتيلًا منبوذًا حتى لم يجد موضعًا لقبره. الأمر نفسه تكرّر مع عالم الاجتماع، والمؤرخ، والفقيه، ومبدع نظرية العصبية عبد الرحمن ابن خلدون من طرف حسّاده؛ هذا المفكّر الذي تميّز بعقله الرصين وإبداعه الفذ، والذي كان محاطًا بحسّاد، وواشين سعوا بكلّ وسيلة لإسقاطه، إذ لم يحتملوا تفوّقه الفكري وقدرته على استشراف المستقبل، حاكوا المؤامرات، وأثاروا الحكّام ضده، لكن إرادته كانت أقوى من أحقادهم، فاستمرّ في نهجه رغم كلّ العراقيل، تاركًا إرثًا فكريًا يبهر العالم حتى اليوم، على الرغم من المصاعب والمتاعب النفسية والاجتماعية التي لحقت به جرّاء آفة الحسد.
وكما يحدث دائمًا، فإنّ هذه الآفة الخطيرة المتعلّقة بالنفس والعقل والوجدان، والتي تميل به نحو السقوط في مهاوي الشر المُفعم بالسوء، والخبث، وتمني زوال النعمة؛ فإنّ عصرنا الحاضر، الذي هيمنت عليه التكنولوجيا الرقمية، وسهّلت المقارنات السطحية بين الناس، فأصبح داء الحسد أكثر حضورًا من ذي قبل؛ فترى الكثير من الموهوبين يُحاربون، لا بالسيوف والمؤامرات كما كان في الماضي، بل بالنقد الهدّام والانتقاص غير المبرّر. وهذا الواقع يجعل التحدي أمام الناجحين أكبر، لكنه أيضًا فرصة لإثبات التفوّق الروحي والعقلي.
المجتمعات التي تدعم المواهب وتقدّر التميّز هي التي تنهض، بينما تلك التي تنغمس في التحاسد تفقد فرصاً ثمينة للنمو
إنّ النجاح الحقيقي ليس مجرّد تحقيق إنجازات مادية، بل هو السير بثبات نحو أهداف سامية، بعيدًا عن استرضاء الحاسدين أو الالتفات إلى أحقادهم، كما استمرّ ابن خلدون متحديًا كلّ الظروف ليخدم الإنسانية بعلمه، ولسان الدين ابن الخطيب الذي نجح في خطّ إبداعه حول أخبار غرناطة، وهو ما ينبغي السير عليه في عصر اليوم؛ فيظلّ الناجحون اليوم مخلصين لرؤاهم، مدركين أنّ الخير الذي يزرعونه اليوم قد يثمر بركة ونفعًا ولو بعد مئات السنين. والنجاح في نهاية المطاف، ليس ترفًا يُمنح بل مسؤولية تُحمل، وهي مسؤولية تستحق كلّ جهد وتحدٍ، على الرغم من الصعاب والتحديات التي قد يتعرّض لها أثناء السير.
ذلك أنّ الحسد ليس فقط آفة تؤثر على الحاسد والمحسود، بل هو عنصر مُعيق لتقدّم المجتمع بأكمله، حيث يؤدي إلى تآكل روح التعاون والإبداع، فالمجتمعات التي تدعم المواهب وتقدّر التميّز هي التي تنهض، بينما تلك التي تنغمس في التحاسد تفقد فرصًا ثمينة للنمو. وعلى المستوى الفردي، يمكن لكلّ موهوب أن يجعل من حسد الآخرين دافعًا للتحسّن والعمل بإصرار، محوّلًا الطاقة السلبية التي تصيبه إلى قوّة إيجابية تبني شخصيته وإرثه، وهذا حاصل مع الكثير من التجارب الحديثة، كما هي تجربة المفكر الجزائري مالك بن نبي؛ فالدارس لمشروعه، والقارئ لسيرته يتعجّب من طريقة تجاوزه للمعضلات التي أصابته جرّاء حساده، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة السير إلى حين وفاته.
وخلاصة الأمر، إنّ آفة الحسد رغم كونها انعكاسًا لمعاناة نفسية واجتماعية، ومدخلات عقلية مفاهيمية مشوّهة تحتاج إلى تشريح وتفكيك، فإنها تبقى آفة معطّلة تبدّد الطاقات التي كان يمكن توجيهها للبناء والإبداع.. والتحذير منه ليس مجرّد نصيحة، بل ضرورة لحماية النفس من التآكل الداخلي، وفتح المجال لتحقيق الذات بعيدًا عن تتبّع نجاحات الآخرين.