عن أصلنا وفصلنا ومن أين أتينا؟

25 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 22:23 (توقيت القدس)
+ الخط -

الأسئلة المتعلقة بأصولنا، بيولوجياً وكيميائياً وكونياً، هي أعمق الأسئلة التي يمكن أن نطرحها. هل من إجابات عن هذه التساؤلات؟ ببساطة، ليس لدينا أية إجابات قاطعة مانعة، بل تصورات علمية عن واقع كان يوماً قائماً، نجد تجلياته في العديد من مفاصل العلوم النظرية والتجريبية: الفيزياء الفلكية، الكيمياء العضوية، علم الأحياء الجزيئي. تذكروا، العلم لا يقدم لنا الإجابات النهائية على استفساراتنا، بل يقدم لنا أفضل تصور للواقع، في ضوء معرفتنا الحالية، بما يتوافق مع جميع الأدلة التي جمعناها حتى الآن. لقد قطعنا شوطاً طويلاً في سعينا لفهم الكون، وبينما لا تزال هناك أسئلة لا تزال عالقة، ومع ذلك، فإن الخطوط العريضة - بالإضافة إلى تفاصيل كثيرة - عن "أصلنا وفصلنا" قد عُرفت أخيراً.
بالنسبة لنا، كبشر، يخطر هذا السؤال على بالنا كثيراً في طفولتنا المبكرة: نرى العالم من حولنا، ونلمسه، ونختبره، ونتساءل من أين أتى كل هذا. ننظر إلى أنفسنا ومن حولنا، ونتساءل عن أصولنا. حتى عندما ننظر إلى السماء، ونتأمل المناظر الخلابة لسماء الليل: القمر، والكواكب، والنجوم، وطيف درب التبانة الباهر، بالإضافة إلى أجرام السماء العميقة، عند ذلك يغمرنا شعورٌ بالرهبة، متسائلين من أين جاءت الأضواء، وربما حتى من أين جاء هذا الليل الشاسع الذي يُرخي سدوله على الكون، لأن النهار طارئ والليل مُقيم. يحكي امرؤ القيس في معلقته عن ذلك الليل الفاحم، أو تلك "المادة المظلمة" التي لا يُعرف لها أول من آخر في صحراء الجزيرة العربية المترامية الأطراف. يقول:
وليل كموج البحر أرخى سدوله/عليَّ بِأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمَا تمطَى بصلبه/وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها اللَيل الطَويل ألا انجلِي/بصبح، وما الإصباح منك بِأمثل
فيا لك من ليل كأنَّ نجومه/بكل مُغار الفتل شدّت بيذبل
كأنَّ الثريّا علقت في مصامِها/بِأمراس كتان إلى صمّ جندل.
آلاف السنين، لم يكن لدينا سوى القصص والحكايات الأسطورية دليلاً لنا: أساطير وأفكار غير مُجرّبة وغير مُثبتة انبثقت من خيال بشري. ومع ذلك، فقد قدّم لنا العلم الحديث، ولأول مرة في تاريخ جنسنا البشري، إجابات دامغة وواقعية للعديد من هذه الأسئلة، تُمكّننا من فهم ليس فقط الطبيعة، بل قصة وجودنا أيضًا. لقد مكّنتنا التطورات البيولوجية والكيميائية والفيزيائية في القرنين التاسع عشر والعشرين، والآن الحادي والعشرين، من نسج نسيج غنيّ يُجيب أخيراً عن السؤال الذي طالما راودنا: "من أين أتينا؟"

من الناحية البيولوجية، نحن أحفاد سلسلة متواصلة من الكائنات الحية التي يعود تاريخ أول ظهور لها على كوكبنا الأزرق إلى ما يقرب من أربعة بلايين من السنين. أنت ابن والديك: أم وأب وراثيان، ساهم كل منهما بنصف مادتك الوراثية. تحتوي هذه المادة الوراثية على كمّ هائل من المعلومات، تُحدد لجسمك البروتينات والإنزيمات التي يجب إنتاجها، وكيفية تكوينها معاً، ووقت ومكان تنشيط مجموعة متنوعة من الاستجابات. تُفسر جيناتك كل شيء تقريباً عن جسمك، من لون عينيك إلى أنواع خلايا الدم الحمراء التي تُنتجها، إلى ما إذا كان لديك انحراف في وتيرة أنفك أم لا. أما والداك، فهما بدورهما من نسل والديهما الجينيين - أجدادك - الذين انحدروا بدورهم من أجداد أجدادك، وهكذا.

العلم لا يقدم لنا الإجابات النهائية على استفساراتنا، بل يقدم لنا أفضل تصور للواقع، في ضوء معرفتنا الحالية، بما يتوافق مع جميع الأدلة التي جمعناها حتى الآن.

اتضح أنه كلما عدنا بالزمن، مراراً وتكراراً، نجد أن الكائنات الحيّة تتغيّر على مدى فترات طويلة جداً من الزمن، وتتطور في هذه العملية. ويعتمد هذا التطور على مزيج من الطفرات العشوائية والاصطفاء الطبيعي، حيث تكون الكائنات الحية الأكثر ملاءمة للبقاء، والأكثر قدرة على التكيف مع التغيرات التي تطرأ على ظروفها وبيئتها، والتي تستمر سلالاتها. ويمكننا استقراء هذا الأمر بالرجوع إلى الوراء، مراراً وتكراراً، إلى زمن أسلاف البشر.

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.