عمن فقدوا بيوتهم
قبل أن أمتلك بيتًا، كنت كثيرًا ما أتجول في المدن التي كنت أسكنها وأنا أنظر إلى المباني وأتخيل نفسي أمتلك فسحة صغيرة فيها. كنت أتساءل مثلًا عندما أرى بهوًا ضخمًا في فندق أو مبنى، كيف لا يبالي صاحب هذا البهو الفارغ الواسع بمتشرد لا يملك مترًا ليأوي إليه؟ كان ذلك عندما كنت طالبة فقيرة في باريس. يومها، سكنت غرفة صغيرة للغاية في فواييه للفتيات، تبين لي بعدها أنه نوع من إصلاحية للجانحات منهن.
ومضيت أحلم بغرفة وحمام فقط، لي وحدي، أفتح الباب بمفتاحي، وآوي إليه كما أريد ساعة أريد. كان ذلك النوع من الغرف كثيرًا ما يسكنه طلاب لرخص إيجارها نسبيًا كونها صغيرة جدًا ومن دون مرافق، بنيت من أجل الخدم في الشقق الكبيرة. ثم أضفت للحلم مصعدًا، أو سقيفة مائلة في الطابق الأخير يتوسط سقفها شباك يسمح برؤية السماء ليلًا نهارًا، والتمتع بمشهد ارتطام حبات المطر عليه حين يكون موسم الشتاء.
ثم امتلكت بيتًا، لكني بقيت أنظر إلى المباني الجميلة متخيلة امتلاك بيت أكبر، لأهلي هذه المرة، أجمل من ذاك الذي استطعنا تأمينه لهم بعد أن خسرنا بيتنا في الحرب الأهلية ونزحنا إلى بيت أصدقاء غادروا البلاد بانتظار أن تنتهي الحرب.
كنت أفكر بكل ذلك حين ظهر رجل على الشاشة في مقابلة من القطاع المدمر. كان منفعلًا وهو يقول "عدنا إلى الشمال، عدنا إلى..."، ثم توقف هنيهة محجمًا عن لفظ كلمة "بيوتنا" البديهية ليتابع بمرارة: "عدنا لكن ما في بيوت ولا شوارع ولا أحياء. بس معليش، المهم رجعنا".
تقول المذيعة إن من "فقدوا بيوتهم" يحسون بالأسى لكنهم فرحون أيضًا. تبقى الجملة في داخلي تكرر نفسها. أعيدها في عقلي وأنا واقفة، يوم العاصفة، أراقب من خلال نافذتي الزجاجية الأشجار العالية تميل بقوة وتنحني تحت وطأة الرياح الشديدة لتكاد تلامس الأرض، في حين كانت زخات المطر الغزير تسطر الهواء بخطوط مائلة سرعان ما تتناثر نقاطها وتتبدد لدى اصطدامها بالأسفلت الغارق بالمياه.
قبالتي، في المرآب الخالي من السيارات أول المساء، تكاد الطيور تفقد توازنها وهي تغامر بالطيران من الشجرة المتمايلة، على الرغم من ضخامتها، إلى المبنى المقابل. تتخبط حمامة للحظات في دوائر ثم تنجح باختراق الريح والوصول إلى عشها خلف مكيف إحدى الشرفات.
"فقدوا بيوتهم" تقول المذيعة في الراديو أيضًا. كانت تتكلم عن أولئك الذين محت إسرائيل مدنهم وقراهم في لبنان. كانت تصف حال الأهالي الذين عادوا إلى قراهم خلال العاصفة التي هبت على المنطقة وأغرقت الأنقاض وأعاقت انتشال الشهداء.
أكرر الجملة لنفسي بصوت عالٍ، كما لو أني فهمت، للمرة الأولى، ما الذي تعنيه بالتحديد هاتان الكلمتان وحدهما، الآن، هنا، في بيتي خلال العاصفة، واقفة خلف نافذتي الزجاجية السليمة، أشاهد ما تفعله الطبيعة بكل من هو موجود في الخارج من دون مأوى.
هل قلت نافذتي السليمة؟ صحيح.
نجا زجاج نافذتي من العدوان الإسرائيلي الأخير بكل شراسة حرب الإبادة التي شنها ضد البيوت والمباني التي كان الناس يسكنون إليها. ضد كل ما هو عمران. نجا على الرغم من أن الضاحية تقع على بعد مئات الأمتار فقط من منزلي. نجا، تمامًا كما حصل يوم انفجار مرفأ بيروت الزلزالي، وهذا الأخير أيضًا كان غير بعيد عني أيضًا. رأيت ذلك الفطر العملاق من لهب ودخان من شرفتي بعد أن دوى الانفجار. ثوانٍ، وانهمر إثره كل زجاج المباني في محيط بيتي محولًا أرض الشارع الذي أقيم فيه إلى بساط من حطام يقرقع تحت خطو المشاة الحذرين.
وأنا أيضًا فقدت بيتًا. كان بيت طفولتي في الحرب الأهلية اللبنانية. يومها دمر المبنى بكامله. كان ذلك أواسط الثمانينيات في مدينة طرابلس شمالي لبنان. يومها لم يتبق شيء، احترق كله ولم ينج إلا ما هربناه منه قبل انهيار البناية التي كانت واقعة على خط اشتباك المتحاربين. يومها قلت الحمد لله أننا مجرد مستأجرين والبيت ليس ملكنا. لكن والدتي فكرت بأصحاب المبنى وقالت: "يا حرام، اخترب بيتهم".
طالت الحرب الأهلية وعلمتنا كل أنواع الخوف، فطوّرنا تبلدًا بالإحساس ندافع به عن أنفسنا ضد الخراب.
صرت لا أحس بشيء تجاه منظر أكوام الأنقاض التي تتشابه في كل الصور إلا ما خرج عن "العادي" الذي اعتدناه أجيالاً عاشت بضع سنوات من السلام بين الحروب. أكوام من الرمال أو الصخور، خالية من أي تفصيل يعينك على تخيل ما الذي كان هنا؟ برج أو منزل وحيد؟ مستشفى؟ فندق؟ دكان؟
لكن تلك التي لم تهدم بالكامل والتي بقي منها بعضها، بقايا جدار ثبتت عليه مغسلة مثلًا، أو سقف تتدلى منه بقايا ثريا، تصيبني بالبكاء. كأنما كنت بحاجة إلى المتبقي منها لأعيد تشييد صورتها في مخيلتي وأفهم الخسارة.
فأن تشعر يعني أن تفهم، أن تكون قد جربت ذلك الفقدان. أن تدرك تفاصيل لا يمكن أن ينقلها إلا من عاشها.
ما قاله ذلك الرجل الذي عاد إلى بقايا بيته في شمال غزة عن ليلة العاصفة حطم جلد دفاعي السميك. يقول إن ثيابًا تبقت من أشلاء الجثث التي أكلتها الكلاب الشاردة في الشمال المنكوب، كانت تطير في الهواء. كان الفضاء في العاصفة يعج بها، تتقاذفها الرياح القوية من هنا إلى هناك: قمصانًا ممزقة عند القلب مكان الإصابة بالرصاص، وأخرى عند البطن، وأن نصيبه منها كان بنطالًا لطفل.
تفصيل كهذا يختصر كل شيء، يصيبك في القلب بجرح غائر.
في غزة، عاد الناس إلى الشمال. احتفت الشاشات بصمودهم، بإصرارهم على العودة، لكن قلائل من سمعوا الغزيين يتساءلون: أين نبقى؟ عدنا، لكن لا بيوت نعود إليها. احتفى الكثيرون بمن جلسوا فوق أنقاض مساكنهم معلنين أنهم لن يتزحزحوا، لكن أحدًا لم يمض ليل العاصفة معهم، لم يستطع أن يتصور، فعليًا، كيف ناموا إن استطاعوا، كيف تدفأوا؟ أين بات أطفالهم؟ والأهم، كيف نساعدهم.
مأساة من فقدوا بيوتهم، خصوصًا في غزة الممنوعة من الإعمار، هو الفصل الصامت من الإبادة، أو لنقل إنه الأقل مشهدية قابلة للنقل كي يستطيع بقية العالم أن يتعاطف ويتحرك.
تتشابه صور الأنقاض، تتكرر حتى تصبح بلا معنى: ركامًا بليدًا صامتًا.
"فقدوا بيوتهم" ليست جملة تامة. لكنها تؤوي كل آلام المشردين في عالم ترك إنسانيته تموت في العراء.