على قارب الموت نحو الحياة

16 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 14:08 (توقيت القدس)
+ الخط -

ثمّة شابٌ في مُقتبل العمر، يجلس في قارب نجاة، مستجيباً لقوّة التوق من أجل العبور، من حياة يكتنفها الموت جرّدته من إنسانيته إلى حياة الانتماء الإنساني، راجياً إحداث القطيعة مع ماضي المآسي والأزمات وطمس الطموحات وإقبار الطاقات، والانتقال إلى مستقبل لن يكون إلّا أفضل وأكرم وأرحب رغم ما ينتظره من تحدّيات وصعوبات.

يمثّل هذا الشاب شريحة عريضة في المنطقة العربية، شريحه تقاسمه الرؤية نفسها، ونعني بذلك هدف الهجرة إلى الضفة الأخرى، وذلك لانعدام أيّ رؤى أخرى داخل البلد الأم. ولا يهم هنا إنْ كان ذلك يجري عبر الهجرة غير الشرعية والمجازفة بالحياة. ومما لا شكّ فيه أنّ الشاب تفانى في تحصيل المبلغ المادي الواجب تأديته، وربما لجأت عائلته إلى الاقتراض أو بيع شيء ما من ممتلكاتها القيّمة من أجل إنقاذ فلذة الكبد. 

بين الماضي والمستقبل، يستقرّ حاضر الشاب عند زمن مكوثه على القارب وانصهاره الحسي والوجداني في لحظات المرحلة المفصلية أو البرزخ الذي يفصله بين الموت والحياة، سعياً نحو الكرامة وإثبات الحضور واستشعار الوجود وترميم وإعادة بناء الذات. والحال هذا، يبقى الشاب تحت رحمة رحلة مفصلية تمنح صاحبها الخلاص من سنين غير متناهية من العذاب الرهيب.

رحلة مفصلية تمنح صاحبها الخلاص من سنين غير متناهية من العذاب الرهيب

تستوطن القارب قيم رهيبة من التآزر والتضامن والإنسانية الصرفة وحبّ الخير للغير، إذ يتقاسم من يوجد على ظهره نفس رغبة الخلاص من المعاناة على اختلاف تفاصيلها ومرارة الإقصاء وقساوة التهجير. على القارب تطفو قيم جميلة تندثر وتتآكل باستمرار داخل البلد الأم بفعل أداء حكامة تسبح ضدّ تيار رغبات وطموحات الناس، وتستميت في تنشيط نعرات الفردانية والأنانية والعدوانية بين الناس والاستثمار في رغباتهم وغرائزهم المادية.  

ارتسمت على مُحيّا الشاب ابتسامة أمل تناغمت مع الأمل الذي يسكن خوالجه منذ لحظة ركوبه القارب طالباً ومُستجدياً الضفّةَ الأخرى، إنها ابتسامة مركّبة من وجهين، إذ يحمل الوجه الأوّل فرحة وتطلّعاً نحو مستقبل تبدأ صناعته عندما تطأ القدم يابسة الضفة الأخرى، فيما يحمل الوجه الآخر ابتسامة سخرية من حكامة احتقرت إنسانيته، وألغت وجوده المادي والمعنوي، ولم تمنحه مقام المواطن صاحب الحقوق والنواة الصلبة التي تستبطن وجود المؤسّسات والتصوّرات التدبيرية.

سياسات قائمة على الظلم في توزيع الثروات ومعاقبة المواطن المجتهد المُجد والطَموح، فيما يُكافأ المُرتزق المُحتال المتواكل والمستأثّر بالريع

قد يرى البعض في هذه المجازفة اندفاعاً أو تهوّراً أو يأساً باعتبار حداثة سن الفتى، لكن هذا الأخير اختار صناعة الأمل بنفسه، ويعرف جيّداً ما ينتظره من صعوبات، ومع ذلك لا يأبه لها بتاتاً؛ إذ لن تصل في قساوتها إلى ما عاشه في بلده الأم من موت بطيء وإقصاء وسلب الكرامة. يستطيع أن يتجاوز تلك الأزمات في المهجر ما دام هناك أمل في أرض يحكمها القانون وسيادة العدل. بالقدر نفسه، يعي جيّداً ما ينتظره من استغلال لوضعيته اللاقانونية من لدُن أرباب العمل، ومن عنصرية وصعوبة الحصول على أوراق الإقامة، غير أنّ كلّ ذلك يهون ويندثر أمام مرارة الغمّة داخل البلد الأم. كيف لا وقد فضّل الزجّ بنفسه في مخاطرة قد تعصف بحياته وتنهيها في ملكوت البحر المتوسط.

كيف هو يا ترى إحساس كلّ مسؤول، من قريب أو بعيد، حين يتلقى نبأ موت طوابير من الأبرياء في البحر أو مشاهدته لفيديو يوثّق لحظات هروب شاب في مقتبل العمر من جحيم ما أنتجته سياسات قائمة على الظلم في توزيع الثروات، وإغناء الغني وتفقير الفقير، ومعاقبة المواطن المُجتهد المُجد والطَموح، فيما يُكافأ المُرتزق المُحتال المُتواكل والمُستأثّر بالريع؟

أكيد أنه لا يستشعر ولو ذرّة ألم، وهو المجرّد من حسّ المسؤولية والوطنية والمُنكبّ أساساً على إشباع غرائزه وتغذية تضخّم الأنا اللامتناهي. كيف ما كان الحال، فالهارب من جغرافيّة ولادته ونشأته يستريح ويريح مَن يديرون شؤون البلد في حال غرقه، أما عند النجاة؛ فهو مصدر عملة صعبة لبلد دفع أبناءَه إلى الهجرة بعيداً عنه.

عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان