عبد الوهاب وبليغ وكمال الطويل وأم كلثوم

عبد الوهاب وبليغ وكمال الطويل وأم كلثوم

12 ابريل 2022
+ الخط -

رمضان وهلالة (2)

وصلنا، المدام هلالة وأنا، إلى مقهى الختايرة في مدينة إلمسهورن الألمانية، وطلبتُ من النادلة أن تتحفنا بفنجاني قهوة إسبريسو. تلقت هلالة اتصالاً على الموبايل من شقيقتها "شمسة" التي تقيم في هامبورغ.. سمعتُ، أثناء حديثهما، عبارات تتضمن أسماءَ بعض المأكولات السورية؛ كالتبولة والفتوش والسنبوسك والفريكة والأرمان والكعك المعروك، أوحى لي هذا بأن شمسة تُحَضّر وليمة لاستقبال شقيقتها، وترتب الأمور لكي تتناولا طعام الفطور الرمضاني في اليوم التالي سوية. وانتهت المكالمة بقول هلالة:

- طيب شَمُّوس، ماشي، تحت أمرك، خلص، عطيني ساعة واحدة، بعدما نشرب القهوة أنا وأبو مرداس أتصل بك ونتفق على كل شي. يا الله شموس، أوفيدَرتسيهن. (إلى اللقاء).

قلت: اسمحي لي أن أترحم على والدك الذي يبدو أنه كان مختصاً بعلوم الفَلَك، لذا أطلق عليكما اسمين فلكيين: شمسة وهلالة، ولا أدري إن كان لديكم أخت اسمها قمر.

ضحكت وقالت:

- مختص بعلوم الفلك؟ الله يسامحك. والدي، الله يرحمه، أمضى عمره وهو يبيع "ترابة الهلُّك" في أزقة حارات حلب القديمة، على ظهر حمار، ولم يدخل المدرسة أصلاً، وكانوا يسألونه عن سعر زنبيل ترابة الهلك، فيفتح أصابع يده اليمنى الخمس، وإصبعين من اليسرى، ليَفهم محدثُه أن الزنبيل الواحد ثمنه سبع فرنكات (35 قرش سوري). على كل حال هذا ليس موضوعنا، يؤسفني أن أقول لَكَ إن مخطط زيارتي الرمضانية قد تعرض لتغييرات اضطرارية.

- ما هي؟

- بصراحة؟ كنت أنوي أن أتناول الفطور مساء الغد عندكم، فقد قرأتُ لك، ذات يوم، مادة قصصية تقول فيها إن وزنك قد زاد، بعد عملية القلب المفتوح، وإقلاعك عن التدخين، عشرين كيلوغراماً، وإن الحق في ذلك على الأكلات اللذيذة التي تصنعها السيدة أم مرداس.. ولكن أختي شمسة فاجأتني الآن بأنها دعت شقيقَنا الوحيد أحمد، وامرأتَه الألمانية مارليز، وبقية أقاربنا الذين هربوا من براميل ابن حافظ الأسد، وساقتهم الأقدارُ للجوء في جنوب ألمانيا إلى الفطور غداً، وأفهمتهم أن هلالة (حضرتي) سأكون موجودة. وأنت تعرف كم سيكلفهم المجيء إلى هامبورغ من تعب ومصاري..

بعد ذلك، صار صلاح جاهين يغلق الخط، ويعاود الاتصال، ويملي عليه بيتاً وراء بيت حتى اكتملت الأغنية

- مفهوم يا مدام هلالة، مفهوم.. يمكنك زيارتنا وتذوق أكلات أم مرداس بعد عودتك من هامبورغ. تمام؟

قالت: تمام. كنتَ تحكي لي، ونحن في الطريق، عن أغنية محمد قنديل الرائعة "وحدة ما يغلبها غلاب"، وقلت لي إن الموسيقار عبد العظيم عبد الحق لحنها خلال نصف ساعة. وأنا أريد أن أسألك: هل يعقل هذا؟ وكيف تفسره؟

قلت: أنا لا أمتلك إجابة دقيقة عن هذا السؤال، ولكنني أعرف حكايات ربما تفيدنا في تفسير الحالة.

قالت: جميل. برأيي أن المعرفة من خلال الحكايات أفضل من المعرفة المجردة. هات أسمعني.

قلت: موسيقار الأجيال، محمد عبد الوهاب، يقول في مقابلة تلفزيونية مع مفيد فوزي، إنه، في بعض الأوقات، يسمع لحناً جميلاً يَطرق أذنه، فيسارع إلى تسجيله على ورقة، لئلا ينساه، وعندما يلحن أغنية في وقت لاحق، تكون مجموعةٌ من النغمات موجودة في دفتره، فيسهل عليه إعطاءها الشكل النهائي. يعني؛ إذا لحن محمد عبد الوهاب أغنيةً خلال ساعة يكون قد اشتغل عليها زمناً طويلاً قبل ذلك..

- أيوه. الآن فهمت.

- هناك مثال آخر، قرأتُ في كتاب "داغستان بلدي" أن الأديب رسول حمزاتوف كان مستلقياً على ظهره، ذات يوم، وينظر إلى السقف، فدخلت عليه امرأته، وطلبت منه أن يقوم لتناول الطعام. فقال لها: إنني أشتغل. ضحكت وقالت له: ماذا تشتغل؟ أراك تنظر إلى السقف. فقال لها ما معناه: هذا النظر إلى السقف هو القسم الأكبر من شغلي!

وكان الملحن العبقري بليغ حمدي يلحن عدداً من الأغاني في وقت واحد، وأنا أفسر ذلك بأن مخيلة هذا المبدع الموهوب كانت تبقى حافلة بالألحان على نحو دائم.. وهذا يجعلنا نؤيد قولَ محمد عبد الوهاب عنه: ده بليغ حمدي الألحان بتتحدف عليه حدف.

- أبوس روح بليغ حمدي لم أحب ملحناً مثله.

- وأنا مثلك. وأرى أنه امتداد لسيد درويش، واستكمال لما بدأه. على كل؛ هذا موضوع آخر.. وبما أننا نحكي عن الأغنية التي تُلحن في نصف ساعة، سأحكي لك حكاية عن كمال الطويل.

- يا سلام. يبدو أنني سأعتذر لأختي شمسة وأبقى جالسة معك حتى السحور. تفضل.

- يروي كمال الطويل في مقابلة تلفزيونية أنه، في سنة 1956، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، قعد يتفلفل (بمعنى يأكله الغضب)، يريد أن يفعل شيئاً لبلاده التي تتعرض لغارات متواصلة بالطيران، وهو لا يملك سوى عوده وبعض الآلات الموسيقية الأخرى.

وفجأة خطر له لحن.. ولكن، من أين يأتيه بالكلمات في هذا الوقت؟ اتصل بالشاعر صلاح جاهين الذي يلقبه (جبرتي الشرق)، واسمعه اللحن، هاتفياً، بواسطة البيانو. فقال له صلاح: اعطني ربع ساعة. وبعد أقل من ربع ساعة اتصل به، وأملى عليه المقطع الأول (اللازمة) من نشيد:

والله زمن يا سلاحي
اشتقت لك في كفاحي
انطق وقول أنا صاحي
يا حرب والله زمان

وبعد ذلك، صار صلاح جاهين يغلق الخط، ويعاود الاتصال، ويملي عليه بيتاً وراء بيت حتى اكتملت الأغنية. وهذا يعطينا مثالاً آخر؛ فأنت لا بد أن تندهشي وتتساءلي: كيف أبدع صلاح جاهين هذه الأبيات خلال ساعة من الزمن؟

- مع أنها قصيدة جميلة جداً. صح؟

- صح. ولكنها تبدو جميلة في وقتها، وظروفها. ولكن إذا فكرتِ بها الآن، بصفاء ذهن، ستتحفظين عليها. لأن عبارة يا حرب والله زمان تعني (اشتقنا للحرب). هل يوجد شيء وقع على وجه الأرض أسوأ من الحرب؟

- معك حق. أنا، حقيقةً لم أنتبه إلى هذا الجانب.

- يا ستي، وتكملة الحكاية أن كمال الطويل اتصل بكوكب الشرق أم كلثوم، وحكى لها حكايته مع هذه الأغنية، فقالت له: تعالَ لي. فذهب إليها، فوجد أنها استدعت ثلاثة من كبار عازفي الآلات الشرقية، وخلال جلسة مع كمال الطويل والعازفين، قامت بإجراء بروفة أولية على الأغنية، وأحبتها كثيراً، وأثناء ذلك ضربت صفارات الإنذار معلنة عن غارة جديدة أدت إلى إطفاء النور، فخرجت أم كلثوم إلى الشرفة، فلحق بها كمال الطويل وطلب منها أن تعود، خشية أن تصيبها شظية فتكون خسارة كبيرة لمصر.

مرة أخرى رن جوال هلالة. قلت لها قبل أن تفتح الخط:

- حديثنا لا ينتهي. رتبي أمورك مع شقيقتك، وحينما نلتقي مرة أخرى نتابع.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...