عبد الرحمن منيف.. قدّيس الرواية العربية
كانت حياة عبد الرحمن منيف رحلةً طويلة وشاقّة، ومحفوفة بالمخاطر، تنقّل خلالها بين دول عدّة، ركب قطار الحياة من الأردن 1933، ومن العراق ركب سفينة السياسة عبر حزب البعث العربي الاشتراكي، لترسو به في ميناء الثقافة والرواية، ليترك إرثًا روائيًا عظيمًا، ويغادر قطار الحياة في سورية عام 2004.
خرج منيف من ضيق السياسة وتشعّباتها وتعقيداتها وتقاطباتها إلى أرض الثقافة الواسعة، ورحاب الرواية الفسيح، فأطلق للقلم حريته إبداعًا ونقدًا، وتحوّل من روائي إلى كاتب مبدع ومفكر عظيم وقدّيس للرواية العربية، بفضل منجزه الروائي والفكري الذي اقتحم عوالم كانت محرّمة ومسيّجة بالاستبداد والقمع، والاقترابُ منها يعرّض لأشكال من التنكيل والتعذيب، قد تصل إلى سحب الجنسية والنفي إلى أرض الله الواسعة.
لم تكن علاقة منيف بالسلطة الحاكمة في مختلف الأقطار العربية جيدة ووُديّة، بل كانت علاقة توتر وتضاد، شأنها شأن علاقة المثقفين العرب بالحكام، فالحاكم العربي يرى في المثقف خصمًا ينازعُهُ الشعبيةَ ويحرجه بالأسئلة "الحارقة" أمام الشعب.
ظلّ منيف ملتصقًا بقضايا أمته وحاملًا هموم أبناء وطنه، من المغرب غربًا إلى العراق شرقًا، ومدافعًا شرسًا عن حقّ الفرد العربي في العيش الكريم والحياة اللائقة والمحترمة، وهو ما كلّفه مضايقات طيلة حياته، جعلته ينتقل من بلد إلى آخر.
أبدع منيف في أدب السجون، وأخرج جوهرته "شرق المتوسط"، و"الآن... هنا"، إذ سلّط من خلالهما الضوء على ظلمات المعتقلات والسجون والتعذيب السياسي، ولم يحدد فيهما منيف بلدًا بعينه؛ فهما تسريان على كل بلداننا العربية من المحيط إلى الخليج، طارحًا موضوع الاعتقال السياسي للنقاش، في زمن كان فيه الحديث يقود إلى المعتقل.
صوّر منيف ارتباط الإنسان العربي بوطنه الأم، فرجب بطل رواية "شرق المتوسط"، كان يعلم جيدًا ماذا ينتظره في بلده الأم من تعذيب وتنكيل لكنه قرّر العودة، ليموت تحت سوط جلاديه في السجن، ويريح ضميره من ألم الشوق والحنين لتراب تربّى فوقه ودفن فيه طفولته.
ظل منيف ملتصقًا بقضايا أمّته وحاملًا هموم أبناء وطنه، من المغرب غربًا إلى العراق شرقًا، ومدافعًا شرسًا عن حقّ الفرد العربي في العيش الكريم
يقول منيف عن الوطن، في روايته "الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى": "قد لا تكون بلادنا أجمل البلاد، لأن هناك بالتأكيد بلدانًا أجمل، ولكن في الأماكن الأخرى أنت غريب وزائد، أما هنا فإن كل ما تفعله ينبع من القلب ويصب في قلوب الآخرين، وهذا الذي يقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شيء هنا لك... التفاصيل الصغيرة التي تجعل الإنسان يحس بالانتماء والارتباط والتواصل".
كلّفه قلمه غاليًا، فمنيف المرتبط بوطنه وجد نفسه بلا جنسية، وأدى ثمنًا باهظًا وفاتورة كبيرة نتيجةَ مواقفه التي تشبّث بها إلى آخر حياته، رافضًا الارتماء في أحضان الجاه والثراء الذي عُرض عليه، نظير تخليه عن نقده الحادّ للمملكة السعودية.
ظلّ يؤمن بأنّ غدًا مشرقًا سيأتي، وأن ظلمات الاحتراب والاقتتال والاستبداد ستصبح من الماضي، وأن وطنًا دافئًا يحتضن كل أفراده سيكون ممكنًا.
آمن منيف أن الجماعة أهم من الفرد، في سياق تنامي الفردانية التي غزت العالم بسبب جشع الإمبريالية، فجسّد فكرته في رواية "النهايات"، إذ مات البطل عساف الذي كان يمارس القنص، وهو يحاول إنقاذ أربعة قناصين مبتدئين جاؤوه لتعلم الحرفة وهو المتمكن المتمرس من حرفته، فباغتتهم عاصفةً رملية في الصحراء. مات عساف وهو يحاول إنقاذهم، في تجسيد راقٍ لقيمة الجماعة على الفرد، وهي قيمة أصيلة في الإنسان العربي، ومات كلبه وهو يصد عنه وحوش الصحراء، في تجسيد لصفة الوفاء.
رفض منيف واقعًا عربيًا منغمسًا في الرداءة والتفاهة والانهزامية، والهزائم المتتالية التي عايشها، من هزيمة يونيو إلى غزو العراق سنة 2003، مرورًا بحربي الخليج الأولى والثانية، فاختار الكتابة مجالًا للنضال ولنقد الخذلان العربي الذي صار كأنه قدرنا الذي لا مفرّ منه إلا بقبوله.
ناقش موضوع ارتهان الحكومات العربية للدول الغربية، من خلال روايته "سباق المسافات الطويلة"، وجسّد دعم الغرب للموالين له داخل الدول العربية، فعلاقة الغرب بالشرق كانت حاضرة دائمًا في ذهن منيف، وكانت موضوع روايته "قصة حب مجوسية".
استفاد منيف في تحليله للواقع العربي من تكوينه الأكاديمي في اقتصاديات النفط، وخبرته الطويلة في العمل بالمجال النفطي فأخرج روايته الذهبية "مدن الملح".
كانت خماسيته "مدن الملح" نقطة انعطاف في مساره الروائي، وملحمة روائية ناقشت النفط والصحراء، فغاص في التاريخ السياسي والصراع على الحكم ببلده الأصل المملكة العربية السعودية من خلال "المملكة الهديبية"، فعنوان هذا العمل الضخم يستحق الوقوف عنده مطولًا، لأنه يقول كل شيء عن مدن نبتت فجأة ودون ماضٍ تاريخي كبير، كبغداد أو دمشق أو مراكش...، نبتت بسبب ظهور البترول، إنّها مدن مهددة بالانهيار في أي لحظة... إنها جوفاء بلا تاريخ.
وبأنفة العربي الأصيل والمناضل الملتزم، رفض مساومات السعودية وإغراءاتها، وهو طريح فراش المرض يعاني من فشل كلوي، ويواجه مصيره المحتوم، ليغادر دنيا الناس، في سورية بتاريخ 24 يناير 2004.
ظل الحنين إلى الطفولة يسكن وجدان منيف، ففجّره في ثلاثيته "أرض السواد"، التي تناول فيها مجتمعات العراق، أرض ولادته التي أرضعته حب بلاد الرافدين.
رحل منيف وترك خلفه إرثًا أدبيًا وفكريًا عظيمًا، خلّده وسيخلّده في الأجيال القادمة، عَكَف من خلاله على دراسة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي الذي اندحر نحو الفتن والتنافر والتباغض.