عبد الباسط الساروت... بلبل الثورة ووجهها الأسمر

18 ديسمبر 2024
+ الخط -

يقول الشاعر العراقي، محمد مهدي الجواهري، في قصيدته "يوم الشهيد":

يومَ الشَهيد: تحيةٌ وسلامُ .. بك والنضالِ تؤرَّخُ الأعوام

بك والضحايا الغُرِّ يزهو شامخاً .. علمُ الحساب، وتفخر الأرقام

بك والذي ضمَّ الثرى من طيبِهم .. تتعطَّرُ الأرَضونَ والأيام

بك يُبعَث "الجيلُ" المحتَّمُ بعثُه .. وبك "القيامةُ" للطُغاة تُقام

وبك العُتاة سيُحشَرون، وجوهُهُم.. سودٌ، وحَشْوُ أُنوفهم إرغام

في يناير/ كانون الثاني 1992، وفي حي البياضة البسيط بمدينة حمص، وُلد عبد الباسط ممدوح الساروت. لم يكن ميلاده يومًا عاديًا، ولم يكن صبيًا كغيره، بل كان في دمه نداء الحرية، وفي صوته أهازيج الأمل. نشأ بين أزقة حيٍ فقير، بين أصوات الحياة اليوميّة وتحديات العيش اليومي. كما لم يكن يعلم حين كان صبيًا يلعب في شوارع حمص، أنّ أقداره ستقوده ليصبح أحد رموز سورية، وأيقونة ثورتها.

عبد الباسط، الطفل الذي كبر بين تسعة إخوة، كان يحمل في داخله حلمًا بسيطًا بالحياة، ككلّ الفقراء، أنّ يعيش بكرامة، ترك المدرسة في الصف التاسع ليعمل مع والده في الحدادة، لكنه سرعان ما ترك المطارق والألواح الحديدية لينطلقَ في مسارٍ آخر؛ مسار الأمل والكرامة والحرية والعدالة.

صوتٌ يهتف للحرية حتى تكاد تشعر أن الكلمات تنبض بالحياة

بدأت ملامح الموهبة تظهر مبكّرًا على الساروت في ملاعب كرة القدم، حيث التحق بنادي الكرامة السوري حارسًا للمرمى، وتألّق حتى صار حارس مرمى منتخب سورية للشباب، وحقّق جوائز عديدة، كان أبرزها جائزة ثاني أفضل حارس مرمى في آسيا، كان يحمل طموحًا رياضيًا قد ينقله إلى منصّات البطولات الكبرى، لكنه كان يحمل أيضًا شيئًا أعمق: روح الثورة.

حين اندلعت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، كان عبد الباسط في التاسعة عشرة من عمره، شاب في ربيع العمر، يزهو بحلمه الرياضي، لكنه كان يزهو أكثر بحلمه في الحرية لوطنه، فترك ملاعب الكرة، وبدأ يخطو خطواته الأولى في المظاهرات السلمية التي اجتاحت شوارع حمص.

صعد الساروت سريعًا إلى صدارة المشهد الثوري، بصوته القوي وأهازيجه التي كانت تنبض بالحياة، فصار بلبل الثورة ووجهها الأسمر، يقود المظاهرات بحماسٍ وجُرأةٍ لم تعرف الخوف، كان يصدح بالأناشيد، صوتٌ يهتف للحرية حتى تكاد تشعر أنّ الكلمات تنبض بالحياة، أنفاسٌ تتردّد بين الأهازيج والأناشيد التي صار كلّ حرفٍ فيها نشيدًا للوطن: "جنة يا وطنا"، "حانن للحرية"، و"لأجل عيونك يا حمص بنقدم الأرواح"، كلماتٌ صارت راياتٍ ترفرف فوق رؤوس الأحرار، وصدى يطارد طغاة الظلام.

كان الساروت حارسًا لمرمى وطنٍ أراد أن يراه يومًا بلا قيود

مع تحوّل الثورة إلى الكفاح المسلح، حمل الساروت السلاح للدفاع عن حيّه وأهل مدينته، وأسّس "كتيبة شهداء البياضة"، التي ضمّت أبناء حيّه وأقاربه، وواجهوا معًا أعتى الآلات العسكرية. صمد في حصار حمص مع رفاقه، وعاش معارك ضارية في محاولة لفكِّ الحصار عن المدينة، لم تكن طريقه سهلة إطلاقًا، ففي معركة "المطاحن" التي حفروا فيها نفقًا لنقل الطحين إلى المناطق المحاصرة، فقد الساروت عددًا كبيرًا من رفاقه، بينهم اثنان من أشقائه. لقد كان هذا الحدث مأساويًا، لكنه لم يكسر عزيمته.

بعد حصار دام قرابة 700 يوم، أُجبر الساروت ورفاقه على الخروج من حمص في أوّل عمليّةِ تهجيرٍ قسري تشهدها الثورة السورية، حيث نُقل مع المقاتلين إلى ريف حمص الشمالي، ومن هناك واصل نضاله، متحمّلًا اتهامات وشائعات من بعض الفصائل المسلّحة، ثم انتقل إلى تركيا لفترةٍ قصيرة، لكنه عاد سريعًا إلى ساحات المعارك في ريف حماة.

كان الساروت بلبلًا يغني، لكنه سرعان ما حمل البندقية ليحمي حلمًا لطالما أراد أن يبقى نقيًا بين الأحياء المحاصرة، وبين الحصار والرصاص، وقف كطود شامخ، يذود عن وطنه بيديه، حارسًا للثورة كما كان حارسًا لمرمى وطنٍ أراد أن يراه يومًا بلا قيود.

لم تكن حياة الساروت إلا سلسلة من الفقدان، فقد أشقاءه، ووالده، وأصدقاءه، حتى صار كل شهيدٍ يسقط بجانبه قطعةً من روحه

لم تكن حياة الساروت إلا سلسلة من الفقدان، فقد أشقاءه، ووالده، وأصدقاءه، حتى صار كلّ شهيدٍ يسقط بجانبه قطعةً من روحه، ومع كلِّ جنازةٍ مشاها، ومع كلّ بيتٍ دُمر، ازداد صوتُه قوةً وإصرارًا.

كيف لرجلٍ تكالبت عليه المآسي ألا ينكسر؟ لكنه كان أقوى من الحديد، وألين من نسمةِ الفجر، يُغني لشهدائه كما يُغني لأحلامه، يُهدهد جراحه بأنشودة، ويواسي روحًا منهكةً بأغنية جديدةٍ للحياة. لم يكن عبد الباسط الساروت فقط اسمًا يمرّ عبر صفحات الثورة، بل كان رمزًا لمعنى أن تكون إنسانًا في مواجهة الطغيان، فحين عزّت الكلمات، تكلّمت بندقيته، وحين خذلتهم الأرض، صار صوته أرضًا تحت أقدام الثوار، لكن في ذلك الصباح الحزين من يونيو/ حزيران 2019، رحل الساروت بجراحه، لكنه لم يغادر القلوب، فقد كان موته ولادةً جديدةً لروحه بين الجماهير، وكأنّ السماء اختارته ليكون شفيع الحالمين، ونجمًا يضيء ليل الثائرين.

في نهاية المطاف، وبعد سنواتٍ من الصبر والتضحيات، انتصرت الثورة التي أطلقها الساروت ورفاقه، فتحررت سورية من قبضة الطغيان، ورفرفت رايات الحرية فوق سماء الوطن، وصار صوت الأحرار الذي تغنى به الساروت نشيد النصر، وأحلام الشهداء صارت واقعًا يعيشه السوريون.

لعبد الباسط وأمثاله النصر والخلود، يا من صرت أيقونةً وأغنيةً وأرضًا تحت خطى السائرين، لك المجد كلما هبّت رياح الحرية، ولك الخلود كلما نبتت زهورٌ في ساحات النضال. يا عبد الباسط، لا قبرك يستطيع احتواءك، ولا حدود الأرض تكفي لذكراك. أنت لنا ملحمة، وأنت للوطن قصيدة، وأنت للحالمين بالنصر دربٌ لا ينتهي.

اليوم، كما كُنتَ تحلم، سورية حرّة، الثورة انتصرت، واسمك محفورٌ في ذاكرتها إلى الأبد.