عام على جريمة "البيجر"
"عندما تُقرع طبول الحرب، لا ينتفي دور القانون".
هذا ما تقوله المحامية غيدا فرنجية في مقال لها ضمن دورية "المفكرة القانونية". وتضيف أنّه "في موازاة المعارك العسكرية والسياسية التي تخاض في وجه المشروع الصهيوني، هناك معركة أخرى لا تقلّ أهمّية تُخاض ضدّ قواعد الحرب نفسها. فتعمد إسرائيل إلى تشويه هذه القواعد من أجل خدمة أهداف حروبها في فلسطين المحتلّة كما في لبنان، على نحو يؤدّي إلى إفراغ القانون الدولي الإنساني من روحيّته وأسسه".
بهذه الملاحظة الهامّة، قدّمت "المفكرة القانونية" لافتتاحية عددها المُمتاز تحت عنوان "جرائم حرب إسرائيلية على الأرض اللبنانية" في أغسطس/آب الماضي، وهو عدد وثّقت فيه تلك الانتهاكات التي وافقت طبيعتها ما يصفه القانون الدولي بجرائم حرب وأخرى ضدّ الإنسانية.
ومن دون جدال، فإحدى أخطر تلك الجرائم كانت جريمة تفجير أجهزة النداء المعروفة باسم "البيجر"، التي تبيّن أنّ إسرائيل فخختها بعبوات في أثناء شحنها إلى لبنان، لتنفجر في أيدي أفراد من المقاومة، وهم في منازلهم أو في أماكن عملهم المدنية، من دون حساب لكونهم ليسوا على الجبهة أو في أثناء القتال، بل بين مدنيين آخرين، ولا لاحتمال إصابة عائلاتهم أو حتى أي أشخاص آخرين قد تتوفّر هذه الأجهزة بين أيديهم أو بالقرب منهم، كما حدث فعلاً.
في ثوانٍ، أوقعت هذه الجريمة عشرات القتلى وأكثر من ثلاثة آلاف جريح بُترت أطرافهم أو فُقئت أعينهم واحترقت وجوههم أو بطونهم. كان المشهد هائلاً: الدماء في كلّ مكان، البيوت، السيارات، الشوارع، المراكز التجارية والعيادات. صراخ وصدمة. أعداد هائلة من الجرحى اجتاحت عشرات المستشفيات التي فاض المتوافدون إليها عن إمكاناتها.
أوقعت الجريمة عشرات القتلى وأكثر من ثلاثة آلاف جريح بُترت أطرافهم أو فُقئت أعينهم واحترقت وجوههم أو بطونهم
تحوّلت الأنظار إلى العالم في انتظار استنكار الجريمة ومقاضاة مُرتكبها، لكننا فوجئنا بأنّ العكس حصل. فقد احتفت بعض كُبريات وسائل الإعلام الغربية "ببراعة" و"إبداع" مرتكبي تلك الجريمة، من دون أيّ إدانة لطبيعتها التي جرّمها القانون الدولي، أو على أقل تقدير الضمير الإنساني.
لقد عنونت صحف عريقة تغطياتها بكلمات الإعجاب صراحة أو مواربة. وكان من شأن هذا الاحتفاء الغربي بهذه "الضربة المذهلة"، حسب "لوموند" الفرنسية مثلاً، أن شجّع مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، المُلاحق باتهامات الإبادة والمطلوب للعدالة الدولية، على التباهي بـ"إنجازه" لدرجة تقديم جهاز "بيجر" مذهّب لشريكه في الإبادة، ترامب، هدية أمام كاميرات وسائل الإعلام. أما مهندسو الجريمة في الوحدة 8200، فقد جرّأهم هذا الاحتفاء على الظهور علناً، عكس ما تفترضه طبيعة عملهم الاستخباري، فخورين ومُكرّمين، لارتكابهم هذه الجريمة المُذهلة بوحشيتها.
لم يشوّش على المحتفلين تحذير الكثيرين من تبعات مدمّرة لهذه السابقة التي تهدّد، إضافة إلى حياة المدنيين في كلّ مكان من الكوكب، التجارة العالمية الآمنة وخطوطها، ومنتجات التكنولوجيا.
فما المانع، في ظلّ عدم معاقبة إسرائيل على جريمتها، أن تقوم أي دولة أو كيان مستقبلاً، بتفجير هواتف جيوش أو حكومات أو رؤساء دولة أخرى؟
في ظلّ عدم معاقبة إسرائيل على جريمتها، يمكن أن تقوم أيّ دولة أو كيان مستقبلاً، بتفجير هواتف جيوش أو حكومات أو رؤساء دولة أخرى
هذا ما يؤكّده النائب والمحامي ملحم خلف بقوله: "إن عدم المساءلة القانونية لهذه الجريمة يفتح المجال أمام تفخيخ أي وسيلة استخدام مدنية دون خشية من العقاب". وهذا بالطبع ما خطر بأذهان السلطات الأمنية في بلدان عدّة، عمدت، إثر تكشّف كيفيّة ارتكاب الجريمة، إلى تشديد التفتيش على البضائع الإلكترونية المستوردة. ساد الشك عالم التجارة، وتسلّل سم قاتل لها.
أمّا محلياً؟ فقد "أبدعت" السلطات اللبنانية بإهمالها لهذه القضية الخطيرة. إن كان عبر امتناعها عن تقديم شكوى لمجلس الأمن، أو رفع قضية أمام المحكمة الجنائية، عبر طرف ثالث لكونها غير موقّعة على اتفاقيتها، أو حتى بمجرّد تبنيها المتابعة الصحية لرعاياها الذين فقدوا أطرافهم أو عيونهم بهذه الجريمة.
هكذا، لم يكتفِ لبنان الرسمي بسحب يده من ملف المتابعة الصحية بعد مرحلة الطوارئ، بل أردف سلوكه هذا، بالامتناع عن إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل، وربط ذلك بقبول تنفيذ أوامر أميركية/ إسرائيلية، ما رسّخ في ذهن الرأي العام أنّ هذه السلطة الخالية من أيّ دسم وطني، قد حوّلت نفسها عدواً لمواطنيها لا تتورّع عن معاقبتهم على دفاعهم عن أرضهم وبالنيابة عنها، ومجرّد أداة تنفيذية لإرادة الأميركيين من دون أدنى مقاومة في أحسن الأحوال، ومع موافقة ضمنية في أسوأ الاحتمالات.
درس "البيجر" بما يختصّ بنيات الدولة المؤسفة، رسّخه في الأذهان، إطلاقها سراح أسير إسرائيلي كان قد دخل خلسة إلى لبنان، مدّعياً أنه أضاع طريقه، بعد عام من سجنه، من دون أن تحاول، على الأقل مبادلته بأحد الأسرى المدنيين اللبنانيين في قبضة إسرائيل. الأمر الذي أثار غضب الرأي العام ودهشته. حتى إنّ شخصاً كالنائب الكتائبي نديم بشير الجميّل، ظهر غاضباً في فيديو وهو يندّد بهذا الأداء المُهين.
باتت إسرائيل كياناً منبوذاً وغضب شعوب العالم عليها يتضخّم ككرة ثلج، وهو لا شك، سيُثمر
لكن يبدو أنّه لا قاع لخضوع هذه السلطة. هكذا، أطلقت سراح عميل مُدان بتسليم داتا الاتصالات للعدو خلال الحرب، ومعاونته على تحديد أهداف اغتيالاته وجريمة "البيجر"، والاكتفاء باثنين وعشرين شهراً قضاها في السجن قبل أن يخرج ليحتفل بحريته بوقاحة قلّ نظيرها.
"كان على الدولة اللبنانية التقدّم بشكوى أمام مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة"، يقول المحامي خلف، مؤكداً أنّه كان بالإمكان رفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، من خلال طرف/بلد ثالث موقّع على إنشاء المحكمة لكون لبنان غير موقّع.
كان بالإمكان. لكن الدولة اللبنانية لم تفعل. فأيّ درس يستخلصه اللبنانيون؟
عام على الجريمة الموصوفة ضدّ الإنسانية. عام، ربما كان من أطول الأعوام على ضحايا الجريمة الذين فقدوا أصابعهم وعيونهم وآمالهم في حياة طبيعية. عام، بكينا معهم خلاله بؤس العالم الذي تحتضر إنسانيته والفاقد لعقله واتزانه.
عام مضى، والغضب يكبر، لكنه سيهدأ ويبرد، ويتحوّل إلى التفكّر بكيفية المواجهة. أمّا إسرائيل، فقد باتت كياناً منبوذاً، وغضب شعوب العالم عليها يتضخّم ككرة ثلج، وهو لا شك، سيُثمر.