عام جديد وفجر الحرية لغزّة
أحمد الصباهي
لقد كان عاماً مثقلاً بالصدمات والمفاجآت حتى نكاد لا نعرف من أين نبدأ وأين ننتهي. لكن ها هي غزّة تبقى البداية والنهاية.
ماذا علمتنا غزّة؟ منذ خمسة عشر شهراً، وأنا أجلس على كرسي مقابل للشاشة، أقرأ أخبار غزّة؛ مجازر، حصارا، تجويعا، اعتقالا، قهرا، ظلما...
لم أعتد المشهد، ولن أعتاده، نحيب الأمهات، صراخ الأطفال، بكاء الرجال... والوحش ما زال يبتلع الأرواح، لم يرتو بعد من دماء الغزيين، فيما العالم يتفرّج، بل ويحصي عدد الشهداء والجرحى، يندّد، يشجب، يطالب، يحذّر، لكن أنّى لهذا الوحش أن يتوقف.
صورة سوداوية، بل نفق مظلم، وربما واد ليس له قرار، سماء بلا أفق... كلّ يوم نجترّ الأخبار نفسها؛ تقدّمت المفاوضات، تعرقلت المفاوضات، وهذا يعني المزيد من الضحايا.
واليوم يعيد نفسه من جديد في اليوم التالي، نفس عناوين الأخبار. أنّى لهذا الكابوس أن ينتهي. ليس بعد. هذا بالتحديد ما يريد الاحتلال أن نصل إليه، كابوس ليس له نهاية. هل هو صهر الوعي؟ لا إنه قهر الوعي، قهر الطبيعة، المسارات، البدايات، والنهايات. كابوس غزّة ما زال مستمراً.
تقدّمت المفاوضات، تعرقلت المفاوضات، وهذا يعني المزيد من الضحايا
ما السبيل إلى إنهاء ما يجري، طبيعة الأشياء تقول، إنّه لكلّ شيء بداية ونهاية، لماذا لم نصل إلى تلك النهاية بعد؟ إنه الصمت المفجع، صمت الأخ العربي المتفرّج، البعيد عما يجري في غزّة، والذي يفتح حدوده لتمويل القاتل، ويوصدها أمام المقتول. قُتل أهل غزّة مرتين، والثانية على يد الأخ العربي.
المشهد الغربي يذكرنا بحقبة الاستعمار، إذ ظننا أن مظاهر الحداثة، والتقدم، وإقرار حقوق الإنسان، كفيلة بإسدال الستار عن مشهد الرعب ذاك، أن يُجرّد الاحتلال مَن يقع عليه الاحتلال من إنسانيته، فيستبيحه قتلاً، ونهباً، وإبادة، فالمحتلُّ "يحق له فعل ما يشاء"، أليس من يقتله دونه في العِرق والسلالة، والتقدّم؟ ألسنا برابرة؟!
مع إشراقة ضوء الشمس، تظهر فوهات البنادق، هم أشباح لا يراهم المحتل، لكنهم الأمل والعنفوان لنا، استعادوا كرامتنا المهدورة، يسيرون في الطرق المعوجة، ومن بين الأبنية المهدمة، فرادى يمتشقون قذائف الياسين، يتسلقون السلالم الملتوية، يصوبون في اتجاه الهدف بعد معاينةٍ وتخطيطٍ لعدّة أيام، يحدوهم الأمل بإصابة الهدف، لا شيء إلا الهدف في هذه اللحظة. هم يقاتلون عن زوجاتهم، أبنائهم، آبائهم، أمهاتهم، أصدقائهم...، عن كل هؤلاء يقاتلون. يخبو الحزن بعد إصابة المحتل، وتخرج صيحات التكبير، من أفواه جائعة، وحلوق عطشى. العدو يبعد أمتاراً، هم أشباح، لم يحظ الاحتلال بمواجهتهم. هم أشرف من أن يَكشفوا وجوههم للقتلة والمجرمين، فلا يستحق الاحتلال منهم، إلا أن يقابلوا وجه الرصاص والقذائف.
إنه قهر الوعي، قهر الطبيعة، المسارات، البدايات، والنهايات. كابوس غزّة ما زال مستمراً
ممَّ صُنِع هؤلاء؟ من أيّ مجدٍ وشرف تليد؟ كيف لا يخافون؟ أين قلوبهم، وعقولهم؟
أتساءل، خمسة عشر شهراً، ولم يضعفوا، ولم ييأسوا؟
هؤلاء لا يورّثون درهماً ولا ديناراً، هؤلاء يورّثون بندقية لمن يستحقها. يسقط الشهيد، ولا تسقط بندقيته إلا ليستلها مغامر آخر، مغامر حتى الجنون، ليمشي من جديد في مسار من خلفه، في الطرق المعوّجة، والأبنية المهدمة، والسلالم الملتوية، ليصوّب هدفه نحو جندي محتل جديد.
من يعطينا الأمل غير هؤلاء، لكن من هؤلاء؟ إنّهم جند الله، أبناء الأرض، السكان الأصليون، ابن خانيونس، ومخيم جباليا، والشجاعية، ورفح...
كيف لا ييأس الاحتلال من هؤلاء؟ ها هم بعد خمسة عشر شهراً من القتل والإجرام يطلقون الصواريخ في اتجاه تل أبيب. أين النصر المطلق؟ والقضاء المطلق على المقاومة؟ أين تفكيك كتائب المقاومة وهي تقضّ مضجعكم؟
سيبزغ فجر جديد، وستظهر فوهات البنادق من جديد، سيكمن هؤلاء خلف الجدران المهدّمة، ينتظرون بلا همس مرور العدو الخائف المختبئ بالدبابة، سيخرجون كالأشباح من لامكان، ومن مسافة صفر يزرعون قنبلة بين جنبات الدبابة، ثم يغادرون، لا ينظرون إلى الخلف، لثقة ما تركوه خلفهم؛ "عبوة العمل الفدائي" التي تُحدث انفجاراً يزلزل ما تبقى من كرامة دبابة "الميركافاه" التي داس عليها فدائيو غزّة.
إنّهم جند الله، أبناء الأرض، السكان الأصليون، ابن خانيونس، ومخيم جباليا، والشجاعية، ورفح...
كلّ يوم من هذا، الاحتلال يقتل، وهؤلاء لا ييأسون. مرّ أكثر من عام، ودخلنا في عام جديد، ولا يغادر مخيلتي مشهد لهم وهم يحتفلون أمام آنية من فاكهة، احتفالًا بإيقاع رتل من الدبابات والجنود بكمينٍ قاتل.
كيف لنا أن نشدّ من أزرهم، ونحن الذين نتلقى منهم الشجاعة، والبأس، والنور، واليقين، لقد تعلّمنا أنّ الحق له أهله، من خلالهم، فلا وهنوا ولا ضعفوا، أمام الباطل الوحش المتسلّح بالصمت العربي، والاستعمار الغربي.
قبيل نهاية هذا العام، أمنياتي لغزّة أن تصل إلى النور، إلى الهدوء والسكينة والتقاط الأنفاس التي تستحقها.. ستفاجئنا غزة جميعاً بعد أن يقف إطلاق النار، ستروي لنا حكايات الفرح، مع عبير صباح جديد، لأنها لم تمت، بل حيّة، متأهبة، متوثّبة، تنتظر فجر حرية العام الجديد، الذي سيأتي مع فوهات البنادق.

