"طوفان الأقصى" بين صلاح الدين والمقاومة
يقول أبو عبيدة، المتحدّث الرسمي باسم كتائب الشهيد عزِّ الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس): "الأقصى لنا وجزء من عقيدتنا، ومن أجله انطلق طوفان الأقصى، ومن أجله قدّم أهلنا كل ما يملكون... لقد رأينا نصر الله ونحن نقتحم حصون العدو في السابع من أكتوبر وهي تتهاوى أمامنا كبيت العنكبوت، ورأيناه وهو يمكننا من سحق فرقة عسكرية مدججة بكل أنواع السلاح والتحصين تحاصر أهلنا منذ عقود، ورأينا نصر الله ومقاتلا واحدا يدمر ثلاث آليات للاحتلال ويقتل من فيها وهم يفرون أمامه كأنهم يفرون أمام جيش".
عندما نتأمّل تاريخ القدس، نجد أنّ هذه المدينة المقدّسة كانت دائمًا في قلبِ الصراعات رمزًا لهويّة وكرامة وصمود الشعب الفلسطيني، وقد مثّل فتح القدس على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في عام 1187م لحظةً فارقةً في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لتحرير المدينة من الاحتلال الصليبي، ولكن أيضًا لتوحيد الأمّة الإسلامية حول قضية واحدة. واليوم، وبعد قرونٍ طويلة، نجد أنّ القدس ما زالت محور الصراع، حيث يواجه الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي بمحاولاته المستمرّة لطمس هويّة المدينة وفرض وقائع جديدة على الأرض. وفي هذا السياق، يبرز التشابه بين تجربة صلاح الدين التاريخية وصمود الفلسطينيين اليوم، ما يجعل الماضي مصدر إلهام للحاضر.
في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، كانت القدس تحت سيطرة الصليبيين الذين استولوا عليها بعد مجازر مروّعة ضدّ سكانها المسلمين والمسيحيين واليهود، جاءت تلك الحقبة لتشهدَ تفرّقًا بين الدول الإسلامية (الخلافة العباسية الضعيفة في العراق، والدولة الزنكية في بلاد الشام، والفاطميون في مصر، والموحدون في بلاد المغرب...)، حيث انشغلت كلّ دولةٍ بمصالحها الضيّقة، وهو ما سهّل سيطرة القوى الصليبية على مناطق شاسعة من بلاد الشام (الرها، وأنطاكية، وطرابلس، والقدس...)، لكن مع ظهور صلاح الدين الأيوبي، تغيّرت المعادلة، فقد استطاع هذا القائد توحيد المسلمين في مصر والشام والحجاز، وجعل قضية القدس هدفًا مركزيًا لسياساته وحملاته العسكرية.
أظهر صلاح الدين قيادة رشيدة، تمثلت في تواضعه وعفوه عن سكان القدس بعد تحريرها
قاد صلاح الدين جيشًا متعدّد الأعراق والمذاهب، ووضع التحرير فوق المصالح الشخصيّة والخلافات السياسية، لتصل ذروة جهوده في معركة حطين الشهيرة عام 1187م، حيث كُسرت شوكة الصليبيين، وأُعيد فتح القدس بعد تسعةِ عقودٍ من الاحتلال، كما أظهر صلاح الدين قيادة رشيدة، تمثّلت في تواضعه وعفوه عن سكان المدينة بعد تحريرها، ما أكسبه احترام العالم الإسلامي، وحتى أعدائه.
أما اليوم، فتواجه القدس احتلالًا من نوعٍ آخر، يتمثّل في المشروع الصهيوني الغاشم الذي يسعى لتهويد المدينة وفرض سيطرته عليها من خلال الاستيطان وتغيير التركيبة السكانية، فضلًا عن قمع سكانها الفلسطينيين وتهجيرهم... وعلى الرغم من تفوّق الاحتلال الإسرائيلي عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، إلا أنّ الفلسطينيين أثبتوا أنّ المقاومة ليست فقط بالسلاح، وإنما بالصمود اليومي والدفاع عن الهويّة الوطنية، فكما كان صلاح الدين يقاوم الاحتلال الصليبي، يقاوم الفلسطينيون اليوم آلة القمع الإسرائيلي متمسّكين بأرضهم وحقوقهم متحدين في ذلك كلّ المحاولات لطمس هويتهم.
هناك أوجه تشابه واضحة بين نضال صلاح الدين لتحرير القدس وصمود الفلسطينيين اليوم، أوّل هذه الأوجه هو مركزية القدس رمزًا للصراع بين الحقِّ والباطل، فكما كانت القدس محورًا للصراع في زمن الحروب الصليبية، هي اليوم بؤرة التحدي ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وثانيًا، كانت الوحدة، ولا تزال، شرطًا أساسيًا للتحرير، فقد نجح صلاح الدين في تحقيق النصر من خلال توحيد الجبهة الإسلامية المتفرقة، وهو درس يتجدّد اليوم في ظلِّ الحاجة إلى وحدة الصف الفلسطيني والعربي والإسلامي لدعم المقاومة.
تحتاج القضية الفلسطينية اليوم إلى قيادات تضع مصلحة القدس والشعب الفلسطيني فوق كلِّ اعتبار
إضافة إلى ذلك، يُظهر التاريخ أنّ القيادة الحكيمة والصبر الاستراتيجي هما مفتاح النجاح في مواجهة الاحتلال، فكما قاد صلاح الدين الأمّة بتواضع وحكمة، تحتاج القضية الفلسطينية اليوم إلى قيادات تضع مصلحة القدس والشعب الفلسطيني فوق كلِّ اعتبار، مستفيدة من العبر التاريخية التي أثبتت أنّ القوّة الحقيقية تكمن في صمود الشعوب ووحدتها.
القدس ليست مجرّد مدينة؛ إنها رمز للكرامة والعدالة، ومعركة تحريرها ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، بل هي مسؤولية الأمّة العربية والإسلامية جمعاء، وكما كان فتح صلاح الدين القدسَ نتيجة لتضافر جهود الشعوب الإسلامية كافة، فإنّ دعم المقاومة الفلسطينية اليوم يتطلّب الروح التضامنية نفسها، سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا.
إنّ استلهام تجربة صلاح الدين ليس مجرّد استذكار للتاريخ، بل هو دعوة لاستحضار قيم التضحيات والوحدة والصبر في مواجهة الاحتلال، وكما أشرقت شمس التحرير على القدس في زمن صلاح الدين، فإنّ الأمل في تحقيق العدالة ما زال حيًا في قلوب الفلسطينيين وكلّ من يؤمن بعدالة قضيتهم. في الأخير، القدس ستبقى رمزًا خالدًا للصمود، وشاهدًا على قدرة الشعوب على مقاومة الظلم مهما طال الزمن.