ضمان حقوق الأقليات في الدستور السوري المستقبلي

21 فبراير 2025
+ الخط -

بعد نجاح الثورة السورية في القضاء على نظام الأسد، تبرز قضية حماية حقوق الأقليات ركيزةً أساسية لإعادة توحيد النسيج الاجتماعي المُمزّق. فسورية، بتركيبتها الغنية من الأعراق والأديان والثقافات، تمتلك إرثاً غنياً يشكّل مصدراً للقوة والإبداع. ومع ذلك، فإنّ السنوات الطويلة من حكم النظام السابق زادت من التهميش والتمييز، مما يستدعي معالجة هذه التحديات عبر دستور جديد يعزّز العدالة والمساواة، ويضمن لكلّ مواطن دوراً فاعلاً في بناء المستقبل.

أهمية حقوق الأقليات في سورية

تُعدّ سورية بتنوّعها العرقي والديني والثقافي الفريد أنموذجاً حيّاً لتلاقي الحضارات، إذ تعايشت عبر التاريخ مجموعاتٌ مثل الأكراد، والأرمن، والآشوريون، والتركمان، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، وغيرهم، جنباً إلى جنب مع الأغلبية العربية السنية، أسهموا معاً في تشكيل الهُويّة الوطنية السورية، إلّا أنّ السياسات التمييزية التي انتهجها النظام السابق أضعفت هذا النسيج الاجتماعي ممّا قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات وزعزعة الاستقرار.

اليوم، وبعد اندحار هذا النظام تبرز أهمية حماية حقوق هذه الأقليات، ليست مسألةً أخلاقية أو قانونية فحسب، بل شرطاً أساسياً لتحقيق السلام الدائم والاستقرار السياسي أيضاً. فحين تُكفل حقوق الأقليات، تتعزّز المشاركة السياسية والاجتماعية، ما يعزّز شرعية النظام ويقلّل من مخاطر الصراعات المستقبلية. كما أنّ ضمان هذه الحقوق يساهم في معالجة الأسباب الجذرية للتمييز والإقصاء، مما يحدّ من احتمالية العنف الطائفي أو العرقي ويعزّز التعايش السلمي بين جميع المكوّنات.

السياسات التمييزية التي انتهجها النظام السابق أضعفت النسيج الاجتماعي السوري مما قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات وزعزعة الاستقرار

بالإضافة إلى ذلك، فإن التزام سورية بحماية حقوق الأقليات يعكس احترامها للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ما يعزّز مكانتها على الساحة الدولية ويفتح آفاقاً للتعاون العالمي. باختصار، فإنّ ضمان حقوق الأقليات هو استثمارٌ في مستقبل البلاد، يحوّل التنوّع من مصدر للصراع إلى مصدر للقوّة والوحدة الوطنية، ويضع الأساس لسورية جديدة قائمة على العدالة والمساواة، تتعايش فيها جميع المكوّنات في إطار من الاحترام المتبادل والتكامل الوطني.

التحديات التي تواجه حماية حقوق الأقليات

رغم الإجماع الواسع على أهمية حماية حقوق الأقليات في سورية، إلا أنّ الطريق نحو تحقيق هذه الغاية محفوف بتحديات عميقة ومعقّدة. يأتي في مقدّمة هذه التحديات إرث الطائفية السياسية الذي استُخدم لعقود أداةً لتعزيز سلطة النظام السابق، ممّا خلق حالة من انعدام الثقة بين المكوّنات المجتمعية المختلفة. هذا الإرث لا يمكن تجاوزه إلا من خلال جهود جادّة لتعزيز المصالحة الوطنية وبناء هُويّة وطنية جمعيّة تُعلي من قيم المواطنة المشتركة فوق الانتماءات الفرعية.

نظراً للتنوّع الثقافي واللغوي الغني في سورية، يجب أن يكفل الدستور "الحقوق الثقافية واللغوية

إلى جانب ذلك، يُعدّ غياب التوافق حول تعريف مصطلح "الأقلّية" في السياق السوري تحدياً آخر يعيق تحقيق العدالة والمساواة. فبينما تطالب جماعات مثل الأكراد بالاعتراف بهم بوصفهم جماعةً عرقيةً ذات حقوق محدّدة، بما في ذلك الحفاظ على لغتهم وثقافتهم، تركّز الأقليات الدينية على ضمان حمايتها من التمييز، وضمان حرية ممارسة شعائرها الدينية. ولذلك، فإنّ إيجاد توازن بين هذه المطالب المتباينة، مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها، يمثل معضلة تحتاج إلى حلول مبتكرة وحوار شامل.

ولذلك فإنّ التغلب على هذه التحديات يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، وحواراً وطنياً شاملاً، ورؤية واضحة تعترف بالتنوّع قوّةً دافعةً لبناء مستقبل أكثر استقراراً وعدالة لسورية.

المبادئ الأساسية لحماية حقوق الأقليات في الدستور السوري

لضمان حماية فعالة لحقوق الأقليات في الدستور السوري المستقبلي، يجب أن تُبنى هذه الحماية على أسس دستورية راسخة تعكس التزاماً حقيقياً بالعدالة والمساواة. أول هذه الأسس هو مبدأ "المساواة أمام القانون"، الذي يجب أن ينصّ عليه الدستور بصراحة ووضوح، بحيث يُعامل جميع المواطنين، بغضّ النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية، على قدم المساواة. هذا المبدأ يجب أن يكون حاضراً ليس في نصوص الدستور فحسب، بل في ديباجته أيضاً، ليعكس التزام الدولة بعدم تهميش أيّ مجموعة.

ثانياً، يجب أن يتضمّن الدستور مبدأ "حظر التمييز" بكلّ أشكاله، سواء كان على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس. هذا الحظر يجب أن يُترجم إلى مواد دستورية واضحة، مدعومة بآليات قانونية فعّالة لضمان تطبيق قوانين مكافحة التمييز ومعاقبة المخالفين، ممّا يخلق بيئة آمنة وعادلة للجميع.

"سيادة القانون واستقلال القضاء" ركيزتان أساسيتان لحماية حقوق جميع المواطنين، بما فيهم الأقليات

ثالثاً، نظراً للتنوّع الثقافي واللغوي الغني في سورية، يجب أن يكفل الدستور "الحقوق الثقافية واللغوية"، هذا يشمل الاعتراف بحقّ كلّ مكوّنات الشعب السوري في الحفاظ على تراثها الثقافي ولغاتها، بالإضافة إلى تعزيز المؤسسات الثقافية التي تحافظ على الهُويّة الفريدة لكلّ مجموعة.

رابعاً، إنّ "سيادة القانون واستقلال القضاء" بوصفهما مبدئين يجب أن يكونا ركيزتين أساسيتين لحماية حقوق جميع المواطنين بما فيهم الأقليات. لذلك، يجب أن ينصّ الدستور على آليات تضمن استقلال القضاء، وإنشاء مؤسسات حقوقية قوية قادرة على مراقبة الانتهاكات ومعالجتها بعدالة وفعالية.

خامساً، لمعالجة إرث الصراع والانقسامات الطائفية، يجب أن يتضمّن الدستور آليات "للمصالحة والعدالة الانتقالية". يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء لجان للحقيقة والمصالحة، وبرامج جبر ضرر للضحايا، وتدابير تعزّز الوحدة الوطنية، مما يساعد على بناء جسور الثقة بين المكونات المجتمعية المختلفة.

دور المجتمع الدولي

في هذه المرحلة الحرجة من حياة سورية، يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً داعماً من خلال تقديم الخبرات الفنية والمساعدة اللازمة لضمان تضمين أفضل الممارسات في الدستور. ومع ذلك، يجب أن تبقى عملية صياغة الدستور بقيادة سورية خالصة، من دون فرض أجندات خارجية قد تعيق التوافق الوطني أو تُضعف السيادة السورية.

في النهاية، ورغم التحديات الجسيمة التي تواجهها البلاد، من انقساماتٍ اجتماعية عميقة إلى تدخلات خارجية معقدة، فإنّ سورية لديها القدرة على تجاوز أزمتها الحالية. ذلك يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، ودعماً دولياً ذكياً يراعي خصوصية الوضع السوري، وحواراً وطنياً شاملاً يضمن مشاركة جميع الأصوات. بهذه الأدوات، يمكن لسورية أن تتحوّل من دولةٍ ممزّقة بفعل الصراع إلى دولة تحتفل بتنوّعها وتضمن حقوق جميع مواطنيها، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية. هذا ليس حلماً بعيد المنال، بل هو طريق ضروري نحو مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً للجميع.